نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالصورة.. "الإستكانة مهمة" ماذا قالت الفنانة إيمان الشريف عن خلافها مع مدير أعمالها وإنفصالها عنه    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    النائب الأول لرئيس الإتحاد السوداني اسامه عطا المنان يزور إسناد الدامر    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جِبَالُ النُّوبَا .. الاِنْجِلِيزِيَّة (4)
نشر في سودانيل يوم 04 - 02 - 2009


لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ
(وَسطَ الكَرْكَبَةِ والضَّجِيجِ أهْدَرَتْ ذِهْنِيَّةُ الأَسْلَمَةِ والتَّعْريبِ كُلَّ مَعْنىً لوُحْدَةِ التَّنَوُّعِ وحوارِ الثَّقَافَات)!
كمال الجزولى
(1)
(1/1) فى الحلقات الماضية اعتبرنا تغيير الحركة الشعبيَّة لغة التعليم والتخاطب من العربية إلى الانجليزية فى مناطق إدارتها بجبال النوبا ، بمثابة التأكيد على عجز مزدوج: عجزنا كجماعة مستعربة مسلمة عن ترتيب مساكنتنا للآخرين ، وعجز الآخرين أنفسهم عن وعى مكوِّناتهم الثقافيَّة ، ولهذا اعتبرنا (نيفاشا) محض (عَرْضَة) خارج حَلبَة (الوحدة)! وقلنا إن ما ينبغى أن نسمعه ونعقله جيداً هو أن نومتنا المتطاولة عن استعلاء التيار (السلطوىُّ) فينا على الآخرين بالعِرق والدين واللغة والثقافة ، ينبغى أن يوقظنا منها الآن مشهد الآخرين يثفلون لغتنا ، بعد مئات السنوات من التساكن المعلول ، كما لطعة الدم من الحلقوم! وتساءلنا عمَّا إن كانت تلك مسئولية تيار الاستعلاء من سلطنة (الكَكَر) إلى سلطة (الجبهة) ، أم تيار الغفلة عن استحقاقات (الوحدة) من (أنيانيا وَنْ) إلى (الحركة الشعبيَّة)!
(1/2) ولأن الاجابة الكاملة مما يستلزم مبحثاً مستفيضاً فى الاقتصاد السياسى للعلاقاتنا الاثنيَّة فى السودان ، فقد حاولنا ، بالنسبة للشق الأول من السؤال ، أن نضئ باقتضاب حقيقة انحدار غالب الجماعة المستعربة المسلمة من العنصر النوبىِّ الذى ينتمى إليه (الجلابة) ممن تركزت فيهم السلطة والثروة ، تاريخياً ، فتَشكَّلَ بينهم تيار الاستعلاء من أقصى الشمال إلى مثلث الوسط. على أن شخصيَّة (الجلابى) التى لا تستبطن الوعى (بهويَّتها) النوبيَّة انطلقت تزعم تشكلها بالاسلام والعروبة كنموذج (قومىٍّ) قامع (للآخر).
(1/3) وعدنا بسيرورة ذلك (التكوين) إلى نظام التجارة البسيط ، وفق نمط التشكيلة ما قبل الرأسمالية فى القرن السادس عشر ، على حساب العبيد والمزارعين والرعاة وصغار الحِرَفيِّين المنتسبين بالأساس إلى التكوينات القوميَّة والقبليَّة فى الجنوب وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق ، كمورد رئيس للرقيق والعاج وسلع أخرى كانت تنتزع بالقوة ، مما أفرز تأثيراته السالبة فى المدى البعيد ، حيث استعصم العنصر الزنجى مع لغاته وثقافاته بالغابة والجبل ، على حين مضى (الجلابى) يتيه بأوهامه حول (شرف) محتده (القرشىِّ) المتصل ببيت النبوَّة نفسه ، صائغاً منه وحده صورة الوطن ، ومُقصياً (وضاعة الآخر) الذى لم يعُد سوى موضوع (للأسلمة) و(التعريب) ، ومُهْدِراً بذلك كلَّ فرصة سنحت لتوحِّد البلاد أجزاءها وتعى ذاتها وتنتمى لنفسها! ومن ثمَّ دعونا لنزع الأقنعة عن كلِّ ما لا يُقال ، وفضح المسكوت عنه فى تاريخنا الاثنى ، باعتبار أن ذلك هو المخرج الوحيد الصائب من مأزقنا الوطنىِّ الراهن. وفى ما يلى نواصل:
(2)
(2/1) لا تنتطح عنزان ، بالطبع ، على كون الاستعمار البريطانى لعب دوراً قصديَّاً مباشراً فى تكريس المشكلة ومفاقمتها. غير أن نقطة اختلافنا هى أنه لم (يخلقها) كما فى اجترارنا لبعض المتداول غير المفكر فيه. لقد استند البريطانيون إلى ذاكرة الرق التاريخيَّة ، وإلى الموروث من (أحاجى) نهب الموارد كما مارسه (الجلابة) منذ القرن السادس عشر ، مما سلفت الاشارة إليه ، ليكرِّسوا ، بما يخدم استراتيجياتهم الاستعماريَّة ، أوضاعاً إثنيَّة تاريخية وجدوا عليها السودانيين عند دخولهم البلاد. لقد صاغوا وطبقوا (السياسة الجنوبية) منذ مطالع عشرينات القرن المنصرم ، على جملة قوانين وترتيبات هدفت لِلجْم التقارب ، ناهيك عن التثاقف ، بين إثنيات البلاد المختلفة فى الشمال والجنوب وجبال النوبا الشرقية والغربية ، كقانون الجوازات والتراخيص لسنة 1922م وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م وقانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م ، علاوة على فرض الانجليزية لغة رسمية فى الجنوب ، وتحديد عطلة نهاية الاسبوع فيه بيوم الأحد ، وتحريم ارتداء الأزياء الشمالية على أهله ، وابتعاث الطلاب الجنوبيين لإكمال تعليمهم فى يوغندا ، وما إلى ذلك.
(2/2) غير أنه ، وبعد انقضاء أقل من ثلاثة عقود على تطبيق تلك السياسة ، اتخذت الإدارة البريطانية قراراً بتغييرها عام 1946م ، وعقدت مؤتمر جوبا فى يونيو عام 1947م لإقرار السياسة البديلة التى تبقى الجنوب ضمن حدود السودان الموحد بنظام الحكم الذاتى ، ثم شكلت الجمعية التشريعية بمشاركة الجنوبيين فى ديسمبر عام 1948م. ويفترض د. أسامة عبد الرحمن النور ، فى محاولة لإعطاء تفسير علمى لمتغيِّرات السياسة البريطانيَّة فى السودان ، أنها لا بد قد جرت فى ملابسات الأثر الذى أحدثه تطوُّر علم الانثروبولوجيا بالانقلاب على أسس الاثنوغرافيا ، أو ما صار يعرف فى بريطانيا بالأنثروبولوجيا الكلاسيكية. وكانت الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية قد حققت طفرة كبيرة فى الفترة 1860م 1880م بظهور مؤلفات المدرسة التطورية الرائدة مثل (حق الأم) لباخوفن ، و(المجتمع البدائى) لتايلور ، و(نظم القرابة والمجتمع القديم) لمورغان علاوة على أعمال آخرين كماين وليبوك. وقد قدَّموا جميعهم ، بوعي أو بدونه ، التنظير الذى احتاجه الاستعمار ، باستثناء مورغان الذى اتخذ موقفاً متميِّزاً من التمدُّن ومن مجمل النظام البورجوازى فى القرن التاسع عشر ، قبل أن تستقل الانثروبولوجيا لاحقاً ، كعلم خاص ، عن احتياجات الاستعمار فى مرحلة الأبحاث الميدانية ، فتنجح ، ولو بدرجة نسبية ، فى تحويل الأيدولوجيا الاستعمارية (موقع "ARKAMANI" على الشبكة العالمية).
(2/3) مهما يكن من شئ ، فقد دخل السودان مرحلة ما بعد اتفاقية الحكم الذاتى فبراير 1953م وهو (موحَّد) ، ودخل مرحلة ما بعد الاستقلال يناير 1956م وهو (موحَّد) ، وما كان ذلك ليكون لولا أن النوَّاب الجنوبيون صوَّتوا فى البرلمان الأول (1955م) مع استقلال السودان (الموحَّد) مقابل (كلمة شرف) ، مجرَّد (كلمة شرف) من القوى السياسية فى الشمال بتلبية أشواقهم للحكم الفيدرالى بعد الاستقلال! بل وكان من الممكن أن يشكل ذلك أيضاً ، فى ما لو كنا أوفينا بوعدنا ، نموذجاً فى التعامل المستقيم مع أشواق (الآخرين) من النوبا وغير النوبا على امتداد السنوات الخمسين الماضية. فهل ترانا نعى الآن (كعب آخيل) فى ما جرى على (درب الآلام) الشائك والطويل هذا ، والذى اضطررنا لقطعه حفاة ، منذ أن حنثنا بقسمنا ذات يوم أغبر ، وإلى أن أتى علينا حين من الدهر لم يعُد فيه (الآخرون) يصدِّقون شيئاً مما نقول إلا بضمانات أجنبيَّة؟!
(3)
(3/1) تصدَّت إنتلجينسيا المستعربين المسلمين (الجلابة) لقيادة الحركة السياسية الشمالية منذ ما قبل مرحلة الاستقلال السياسى. وطوال ذلك التاريخ لم تكف هذه (النخب) ، وبالأساس تيارها (العقلانى) بمختلف مدارسه الفكرية وانتماءاته السياسية ، عن اجتراح مختلف الاطروحات حول قضية (الهُويَّة). لكن ، ولأن صعوبات معرفة (الآخر) التى لا يحفل بها التيار (السلطوى/التفكيكى) أصلاً ، والقائمة ، بالنسبة للتيار (العقلانى/التوحيدى) ، فى حاجز اللغة والثقافة والمعتقد ، غالباً ما تشكل إغواءً بالركون للشائع عن هذا (الآخر) فى الذهنيَّة العامة ، فقد ظلت تلك الاطروحات تصطدم فى كل مرة بتلك الصعوبات ، مما أسلم أغلبها لاستسهال التفسيرات التى تحيل الأمر برمته إلى محض (مؤامرة) استعماريَّة قطعت الطريق أمام (التحاق) الاثنيات الافريقية السودانية ، خصوصاً فى الجنوب ، بحركة الاستعراب والتأسلم التى استكملت نموذجها الأمثل ، من زاوية النظر هذه ، فى الشمال والوسط. وبإزاء مصاعب البناء الوطنى بعد الاستقلال عام 1956م ، ولأن الاستسهال يقود للمزيد منه ، فقد أفرغت معظم هذه الاطروحات ، على تنوُّع منطلقاتها ، وبالأخص وسط القوى التقليدية التى ورثت السلطة من الاستعمار ، فى برامج وسياسات رسميَّة:
أ/ حيث أعلنت (العربية) لغة رسمية ، فشكل ذلك إهداراً لكلُّ ثراء البلاد اللغوى لجهتى التعدُّد والازدواج ، إذ توجد فى السودان ممثلات لكلِّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة ، ما عدا لغات الخويسان فى جنوب أفريقيا (S. H. Hurreiz, Linguistic Diversity and Language Planning in the Sudan ضمن: عبد الله على ابراهيم ؛ 2001م). وبحسب إحصاء 1956م فإن اللغات التى يتحث بها أهل السودان منها حوالى الخمسين لغة. ويتحدث 51% من جملة السكان (البالغة آنذاك 10,262,536) اللغة العربية ، ويتحدث 17,7% اللغات النيلية (11% منهم بلغة الدينكا) ، ويتحدث 12,1% بلغات غير العربية فى الشمال والوسط (المصدر).
ب/ وحيث استسهل ، فى الشأن الداخلى ، رسمُ السياسات التى تتمحور نهائياً حول مركز الدين الواحد (الاسلام) واللغة الواحدة والثقافة الواحدة (العربية) ، الأمر الذى أقصى كلَّ أقوام التعدُّد والتنوُّع الثقافى واللغوى ، باعتبار خاصيَّة اللغة كحامل للثقافة ، وأحالها إلى مجرَّد هدف للأسلمة والتعريب. كما استسهلت ، فى الشأن الخارجى ، المراهنة على الاندغام بعين البعد الواحد فى قوام الأمة العربية والاسلامية ، ومؤسساتها كالجامعة العربية والرابطة الاسلامية وما إليهما ، واعتبار ذلك بمثابة (الممكن) التاريخى الوحيد المتاح لحلِّ مشكلة (الوحدة).
(3/2) لم يقع ذلك الاستسهال خبط عشواء بعد الاستقلال ، بل كانت له مقدماته الفكريَّة التى بلورتها ، قبل ذلك ، الاتجاهات والميول الغالبة على الحركة الوطنيَّة عموماً ، ووسط إنتلجينسيا (الجلابة) بالأخص. ففى عام 1941م حدَّد محمد احمد محجوب ، مثلاً ، وقد كان من أبرز مثقفى تلك الحقبة ثم أصبح ، لاحقاً ، أحد أميز قادة الفكر السياسي فى حزب الأمة ، شروط المثل الأعلى للحركة الفكرية "فى هذه البلاد" ، على حدِّ تعبيره ، بأن "تحترم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، وأن تكون ذات مظهر عربي فى تعبيرها اللغوي ، وأن تستلهم (التاريخ) القديم والحديث (لأهل) هذه البلاد و(تقاليد شعبها). هكذا يمكننا أن نخلق أدباً (قومياً)، وسوف تتحول هذه الحركة الأدبية فيما بعد الى حركة سياسيَّة تفضى الى الاستقلال السياسى والاجتماعى والثقافى" (أقواس التشديد من عندنا ضمن: أسامة عبد الرحمن النور ؛ مصدر سابق). ومن نافلة القول بالطبع أن المحجوب لم يكن يرى فى كل البلاد سوى (تاريخ) و(ثقافة) و(لغة) المستعربين المسلمين وحدهم! وتكتسى ، بلا شك ، دلالة خاصة فى هذا السياق عودة الإمام الصادق المهدى ، رئيس حزب الأمة ، بعد ما يربو على نصف القرن ، لينتقد ما أسماه (الأحاديَّة الثقافيَّة) لدى القوى السياسيَّة الشعبيَّة التى حكمت السودان بعد الاستقلال مما أدى إلى استقطابات دينيَّة وثقافيَّة حادة (ندوة مركز دراسات المرأة حول "تباين الهويات فى السودان: صراع أم تكامل" ، قاعة الشارقة بالخرطوم 23/3/2004م).
ج/ ورغم أن السودان لم يُشرَك أحياناً فى بعض المنظمات العربية بسبب وضعه الطرفى ، أو لعدم حسم مسألة العروبة فيه (محمد عمر بشير ، 1991م) ، إلا أن العروبة والديانة الاسلاميِّة ترسختا ، مع ذلك ، لا (كخيمة) يؤمَّل أن تسع قضيَّة (الوحدة) بقدر ما تسع قبول (الآخرين) طوعاً من خلال حركة مثاقفة طبيعيَّة بين مُكوِّنات التعدُّد السودانى ، وإنما كأيديولوجية قامِعة لدى نخب (الجلابة) الفكريَّة والسياسيَّة. هكذا تمدَّد تيار التعريب والأسلمة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافياً ، جاعلاًً من الاسلام إطاراً وحيداً لمنظومة القيم فى كل البلاد ، ومن العربية وسيلة وحيدة للصحافة والراديو والتلفزيون ودواوين الحكومة ومناهج التربية والتعليم ، كما جرى "تأطير المجتمع .. على تلك الأسس .. (مما) أعاق .. فرص الأقليات التي لا تتوافق مع النموذج السائد فى مجالات التطوير الذاتى .. و .. تكّون حاجز نفسى/سلطوى .. فى وجه أي مراجعة .. للشأن الداخلي يُظن أنها قد تمس جوهر الانتماء العربى" (يوسف مختار الأمين ؛ موقع "ARKAMANI" على الشبكة العالمية).
(3/3) ولأن الثقافات (الأخرى) غير منسجمة فى السياق ، بل وقد تتسبب فى إرباكه ، فقد جرى إقصاؤها أغلب الأحيان ، أو محاولة إدماجها قسراً assimilation فى (أفضل!) الأحوال ، على طريقة الاستعمار الفرنسى (!) ويكفى أن نشير ، من بين جمهرة النماذج التى لا حصر لها ، إلى نموذجين ساطعين:
أ/ أما الأول ففرقة الفنون الشعبية على أيام مايو ، حيث غالباً ما كانت العروض من الشرق والغرب والجنوب تتماهى مع إيقاعات وحركات الشمال والوسط ترميزاً مزعوماً (لوحدة) مدعاة ، فتتحوَّل الخشبة إلى (مولد) سياحىٍّ (زائط) بالأزياء والألوان وجلود الحيوانات على أجساد الراقصين والراقصات ، وصنوف الخرز والسُّكسُك والسيور على أعناقهم ومعاصمهم وأرجلهم ، قبل أن يجرى ، منذ مطلع التسعينات الماضية ، (تحجيبهم) بمقايسات (الزى الاسلامى) ، أو (تغييبهم) بحظر عروضهم نهائياً ، وكفى الله المؤمنين القتال!
ب/ وأما الثانى فيتمثل فى ما يُعرف (بالأوركسترا القومى!) و(فرقة البالمبو). وكنت أبديت تخوُّفى قبل زهاء ربع القرن (SUDANOW, February 1980) من خطة د. خالد المبارك ، مدير معهد الموسيقى والمسرح أوان ذاك ، لتكوين أوركسترا (قومى!) يلعب العازفون فيه على آلات من مختلف أقاليم البلاد. وقد استندت إلى عِلم وخبرة الماحى اسماعيل ، مدير قسم الموسيقى العربية بإذاعة كولون ، فى التنبيه إلى كون هذه الآلات تنتمى ، فى الأصل ، إلى بيئات ثقافية شتى ، وأنها ، لهذا السبب ، سوف تحتاج لإعادة دوزنتها ، بالضرورة ، أى لانتزاعها عملياً من قلب تربتها الثقافية ، تمهيداً لإرغامها على الأداء (المنسجم!) مع بعضها البعض ، فيكون الناتج ، بدلاً من جماع ثقافات ، مجموعة أصفار كبيرة! ودعوت لتأمل ما ينطوى عليه ذلك من مخاطر فادحة على مستقبل حوار الثقافات وتساكن القوميات ، حين يستحيل إلى محض تنضيد قسرى لرموز وإشارات وأشكال تفتقر ، أول ما تفتقر ، إلى الروح. وقد أحزننى أن أرى تلك الخطة العقيم تبعث مجدداً ، بعد إذ قبرت فى مهدها. فلئن كانت دعاوى (الوحدة فى التنوُّع) و(التنوُّع فى الوحدة) و(حوار المكوِّنات الثقافيَّة) هى سيرورات ، فى جوهرها ، لا محض إجراءات ، فإن الفهوم الاداريَّة الميكانيكيَّة تهدر كلَّ معنى لها ، حين تنتهى بها ، وسط (الكركبة) و(الضجيج) ، إلى مجرَّد مسوخ شائهة تخضِع ثقافات الجنوب والشرق والغرب والجنوب الشرقى الموسيقيَّة لمقتضى دوزنات الشمال والوسط ، فلا يُصار إلى أكثر من إعادة إنتاج الأزمة الناشبة بين (المركز) و(الهامش) ، وإن كان فى سياق آخر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.