الوطن بين احداثيات عركي (بخاف) و(اضحكي)    الهلال السوداني يواصل استعداده لموقعة كيجالي في الدوري الرواندي    شاهد بالفيديو.. (ما تمشي.. يشيلوا المدرسين كلهم ويخلوك انت بس) طلاب بمدرسة إبتدائية بالسودان يرفضون مغادرة معلمهم بعد أن قامت الوزارة بنقله ويتمسكون به في مشهد مؤثر    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    "صومالاند حضرموت الساحلية" ليست صدفة!    الخرطوم وأنقرة .. من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جِبَالُ النُّوبَا .. الاِنْجِلِيزِيَّة (5)
نشر في سودانيل يوم 04 - 02 - 2009


لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ
(خاطب الشيوعيون الزاندى بلغتهم عام 1954م ، فماذا حدث عام 1969م)!
كمال الجزولى
(1)
(1/1) قلنا ، فى ما تقدم ، أن تغيير الحركة الشعبيَّة لغة التعليم والتخاطب من العربية إلى الانجليزية فى مناطق إدارتها بجبال النوبا ، يفضح عجزنا كجماعة مستعربة مسلمة عن ترتيب مساكنتنا للآخرين ، وعجز الآخرين أنفسهم عن وعى مكوِّناتهم الثقافيَّة ، الأمر الذى يؤكد على غربة موضوعة (الوحدة) عن مفاوضات (نيفاشا)! وقلنا إن ما ينبغى أن نسمعه ونعقله جيداً هو أن صمتنا المتطاول عن استعلاء التيار (السلطوىُّ) باسمنا تاريخياً على الآخرين بالعِرق والدين واللغة والثقافة يُخرج الآن ثمرته المُرَّة فى مشهد الآخرين يثفلون لغتنا كما لطعة الدم من الحلقوم! وتساءلنا عمَّا إن كانت تلك مسئولية تيار الاستعلاء لدينا ، أم تيار الغفلة عن استحقاقات (الوحدة) لدى (الآخرين)!
(1/2) وأشرنا ، بالنسبة للشق الأول من السؤال ، لانحدار غالب الجماعة المستعربة المسلمة من العنصر النوبىِّ الذى ينتمى إليه (الجلابة) من أقصى الشمال إلى مثلث الوسط ، حيث بالثروة والدين والثقافة واللغة والعرق تشكل تيار الاستعلاء على العبيد والمزارعين والرعاة وصغار الحِرَفيِّين المنتسبين بالأساس إلى التكوينات القوميَّة والقبليَّة فى الجنوب وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق ، باعتبارهم جنساً أدنى ومورداً رئيساً للرقيق والعاج وسلع أخرى كانت تنتزع بالقوة ، مما أفرز مع الزمن راهن التساكن المعلول فى بلادنا.
(1/3) ومع إقرارنا بالدور الذى لعبه الاستعمار فى مفاقمة المشكلة ، إلا أننا شدَّدنا على كونها ظلت قائمة قبل مجيئه ، وأن إنتلجينسيا المستعربين المسلمين الذين ورثوا السلطة بعد الاستقلال اصطدموا بصعوبات معرفة (الآخر) بسبب حواجز اللغة والثقافة والمعتقد ، فاستسهلوا السياسة الداخليَّة التى تكرِّس هيمنة اللغة العربية والثقافة العربية الاسلامية ، إهداراً لكلُّ ثراء البلاد لجهتى التعدُّد والازدواج ، كما استسهلوا السياسة الخارجية التى تحقق للسودان كله الاندغام ، بعين البعد الواحد ، فى القوام العربى الاسلامى ، باعتبار أن (الآخر) مجرد موضوع للأسلمة والتعريب. هكذا قدِّمت العروبة والاسلام (للآخر) كأيديولوجية قامِعة ، لا (كخيمة) يؤمَّل أن تسع المثاقفة الطبيعية فتسع قضيَّة (الوحدة). ولأن ثقافة (الآخر) غير منسجمة ، بل وقد تربك هذا السياق ، فقد جرى إما إقصاؤها أو السعى لإدماجها قسراً. وفى ما يلى نواصل:
(2)
(2/1) منذ أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضى ، أى مع بواكير الارهاص الجدِّى بتدشين مشروع الدولة الدينية الذى استكمل أهم خطواته التحويليَّة بانقلاب الثلاثين من يونيو 1989م ، بدأت كثير من الأقسام التقليديَّة ضمن التيار (العقلانى/التوحيدى) العريض ، بما فى ذلك فئات وشرائح إجتماعيَّة واسعة وسط (الجلابة) أنفسهم ، تستيقظ ، وإن ببطء ، على فداحة الخطر الذى باتت خطة الأسلمة والتعريب تتهدَّد به ، لا معتقدات (الآخرين) ولغاتهم وثقافاتهم فحسب ، وإنما مستقبل الاسلام نفسه فى البلاد ، علاوة على اللغة العربية والثقافة العربية ، أى وجود الجماعة المستعربة المسلمة ذاتها. وأخذت هذه الأقسام تتشكك فى تلك الخطة القديمة كطريق مفض إلى (الوحدة الوطنيَّة) ، بعد أن لمست فشلها فى بلورة رؤية تجتذب ولو إجماع المستعربين المسلمين أنفسهم ، دَع (الآخرين) الذين أثارت لديهم من الشكوك فى مقاصدها ما جعلها تبدو ، على نحو ما ، وسواءً أرادت أم لم ترد ، رصيداً إضافياً يتغذى عليه ، فى المحصلة النهائية ، تيار الاستعلاء (السلطوى/التفكيكى)! ومن ثمَّ بدأت وسط هذه الأقسام حركة انعطاف (عقلانيَّة) ملحوظة نحو (الآخر) المهمش ، إنطلاقاً من اقرار جهير بأن "بلادنا بحاجة ماسَّة للتعامل مع تباين الهويات على أساس التعايش والتكامل لا الصراع" (الصادق المهدى ؛ "تباين الهويات .." ، مصدر سابق). هذا فى الوقت الذى لا يزال فيه (السلطويون/ التفكيكيون) على شروطهم ، ليس فقط بتهميش أو إدماج أو حتى محو هذا (الآخر) فحسب ، بل بإعادة ترسيم خارطة الوطن نفسه جغرافياً وسكانياً ، إن دعا الحال ، كى يُمسى ملائماً لمقايساتهم! وليس أصدق فى التعبير عن تأذيهم براهن هذه الخارطة التى تثير المصاعب أمام حركتهم من تذمر قديم للترابى فى قوله: ".. كان (قدرنا) (نحن) فى السودان أن (نبتلى) ببلد مركب معقد البناء يكاد يمثل كل الشعوب الأفريقية بلغاتها وسحناتها وأعراقها وأعرافها" (أقواس التشديد من عندنا: م/الصياد ، ع/مايو ، بيروت 6/5/1988م). وكفى بذلك إفصاحاً عن المُضْمَر تجاه قضيَّة (الوحدة) حتى فى مفاوضات (نيفاشا) الراهنة!
(2/2) أما من جانب ما يمكن تسميته (بالضمير) الوطنى الديموقراطى وسط التيار (العقلانى/ التوحيدى) ، والذى تمثله ، فى رأينا ، قوى اليسار بكل أقسامها ، وتحديداً الحزب الشيوعى باعتباره أعرقها فكرياً وسياسياً وتنظيمياً ، فإن تمظهرات ذلك الاستعلاء شكلت ، منذ وقت باكر ، صدمة عميقة بالنسبة له ، وأفدحُها جوراً اعتبارُ كلِّ مَلمَلةِ احتجاج فى الهامش إما حركة تمرُّد فى الجنوب أو مؤامرة عنصريَّة فى الغرب ، وفى جبال النوبا بالأخص ، فكان المؤمَّل أن يصبح هذا الضمير (نقيضاً) هادماً لرؤى وسياسات وبرامج التيار (السلطوى/التفكيكى) ، لا مجرَّد (خصم) معترض عليها.
(2/3) وما من شك فى أن جهوداً فكريَّة وسياسيَّة كبيرة قد بُذلت فى هذا الاتجاه خلال السنوات الخمسين الماضية ، فعلى سبيل المثال:
أ/ أقرت الجبهة المعادية للاستعمار فى بيانها بتاريخ 28/9/1954م حق (الحكم الداخلى) ، ليس لقوميات الجنوب فحسب ، بل ولكل القوميات السودانية (محمد سليمان ، 1971م ضمن: عبد الله على ابراهيم ، 2001م). (الحكم الداخلى) هو ما أصبح يشار إليه لاحقاً (بالحكم الذاتى الاقليمى) كحل جذرى ، فى رأى الحزب ، من كافة الجوانب السياسية الاجتماعية والاقتصادية Socio-politico Economic. وتطبيقه يستتبع بالضرورة أن يؤخذ فى الاعتبار رأى المعارضين له وسط المجموعة القومية المعيَّنة. ومن هذه الزاوية بالتحديد فإنه لن يكون ثمة مناص من طرحه للاستفتاء ، أى لشكل من أشكال تقرير المصير.
ب/ ذلك هو ما أكد عليه أيضاً عبد الخالق محجوب فى مطلع عام 1971م بتشديده على أن الحكم الذاتى الاقليمى ، كحل ديموقراطى شامل ، يجب أن يفضى إلى تقرير المصير لحسم الصراع حول قضية الوحدة نهائياً (حول البرنامج 1971م ، 2002م). ويجدر التنويه بأن هذا الوسع فى الرؤية قد أدرج مؤخراً ، ربما لأول مرة خارج وثائق الحزب ، ضمن خيارات (إعلان كمبالا) الصادر عن (ورشة الخبراء حول مستقبل الترتيبات الدستورية فى السودان) التى نظمها بين 26 و27 يناير 2004م مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان بالتعاون مع حركة عموم أفريقيا اليوغندية ، حيث انصبَّ ثقلٌ معتبرٌ من آراء هؤلاء الخبراء على "ضرورة النص في الدستور الانتقالى وفى الدساتير التالية على الحق الدائم لجميع القوميات الموجودة في السودان فى تقرير المصير متى ما رأت ذلك ، باعتباره حقا أساسياَ وضمانة لحقوق الشعوب المهمشة ، وأكدوا أن ذلك هو السبيل الديمقراطى لخلق وحدة طوعية وعادلة في السودان".
ج/ وفى مساهمته المشار إليها ، باتجاه المؤتمر الخامس للحزب ، وفى ما يتصل بالتجمعات القومية والقبليَّة ، عنى عبد الخالق بتركيز بعض الموجهات البرامجيَّة ، مثل ضرورة "التشجيع الفعلى للنمو الحر لثقافات هذه المجموعات" ، مشدِّداً على أن ذلك لن يكون "إلا إذا بعثت لغات ولهجات هذه المجموعات ، وعمدت الدولة الوطنيَّة الديموقراطيَّة بجديَّة إلى تشذيب تلك الأدوات والتوسُّل بها فى التعليم (وفقاً للتجارب التربويَّة فى هذا المضمار) وفى النهضة الثقافيَّة الشاملة" ، على "أن تصبح هذه الثقافات جزءاً من المكوِّنات العضويَّة للثقافة السودانيَّة" (حول البرنامج 1971م ، 2002م). سوى أن عبد الخالق لم يعلق هذه الموجِّهات فى فراغ ، بل عمد إلى تقعيدها جدليَّاً ضمن جملة أشراط إقتصاديَّة اجتماعيَّة وسياسيَّة لا تقوم لها قائمة بدونها ، وتتمحور بالأساس حول الديموقراطيَّة الشاملة: ديموقراطيَّة فى علاقات الانتاج ، فى الحقوق السياسيَّة للجماهير الكادحة ، وفى النظام السياسى (المصدر).
د/ وكان حسن الطاهر زروق ممثل الجبهة المعادية للاستعمار فى البرلمان الأول 1954 1957م قد طالب "بألا نعلم اللغة العربية ولا الدين الاسلامى فى الجنوب لأنهما غريبان على أهل الجنوب" (محمد سليمان ، 1971م ضمن عبد الله على ابراهيم ، 2001م). ودرءاً لسوء الفهم فى ما يتصل بتعليم العربية والاسلام فقد ظل الشيوعيون يستشعرون دائماً حساسية خاصة تجاه دعاوى الأسلمة والتعريب القائمة فى مناهج الادماج القسرى ، أى كسر (الآخر) تمهيداً لإعادة صياغته ضمن السياق العربى المسلم ، كما ظلت فكرة التدرَّج والتراضى الطوعى والقبول الثقافى المتبادل ، أو ما يعرف اختصاراً (بالتثاقف الطبيعى) ، هى شاغلهم منذ ذلك الوقت الباكر. أما فى ما يتصل بالفهم السليم لموقف الحزب من الدين فلا بد من قراءة مطلب حسن الطاهر مقترناً ، على الأقل ، بالنقد الذى سبق أن سدده هو نفسه للتجربة السوفيتية ، قبل انهيارها بنحو من نصف قرن ، حين ألمح للخلل الأساسى فيها من جهة "عدم تقدير دور الدين فى حياة الشعوب" (السودان الجديد ، 1/9/1944م ضمن: محمد نورى الأمين ، رسالة دكتوراه وانظر أيضاً مقالتنا: "مثار النقع" ، الصحافة 2/1/2001م).
ه/ وقد ورد فى (تقرير لجنة التحقيق فى الاضطرابات التى حدثت بجنوب السودان فى أغسطس 1955م) أن الجبهة المعادية للاستعمار قامت ، ضمن نشاطها السياسى فى ديسمبر 1954م فى مركز الزاندى والمورو وبين عمال صناعة القطن ونقاباتهم ، بتوزيع منشوراتها بلغة الزاندى (تقرير اللجنة ، الخرطوم 1956م يوسف الخليفة أبوبكر فى حريز وهيرمان بل ، 1965م ضمن عبد الله على ابراهيم ، 2001م).
و/ وقد عاد جوزيف قرنق ، عضو اللجنة المركزية ووزير الدولة بوزارة شئون الجنوب فى حكومة مايو الأولى ، ليُعِدَّ ، من واقع برنامج الحزب تجاه قضية الجنوب ، بيان 9 يونيو 1969م الذى ارتكز على الاعتراف المستقيم بالحقائق الموضوعية للقضية القائمة بالأساس فى الفوارق التاريخية والثقافية بين الشمال والجنوب ، والاعتراف ، من ثمَّ ، بأن من حق شعبنا فى الجنوب أن يبنى ويطور ثقافاته وتقاليده فى نطاق سودان إشتراكى موحد (نص البيان ضمن محمد عمر بشير ، 1970م). وفى سياق تطبيق ذلك البرنامج طلب جوزيف قرنق من مستشاره الفنى للتدريب والتعليم أن يدرس إمكانية تبنى لغة من لغات الجنوب ، كالدينكا التى هى أوسع اللغات الجنوبية انتشاراً ، لتكون لغة الاقليم القومية ، وأن يحدِّد العوامل الجديرة بالاعتبار لتلك الغاية ، وأن يستقرئ النتائج الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى ستترتب على ذلك فى القطر وفى الاقليم ، وردَّ الفعل المتوقع من الجنوبيين الذين يتكلمون لغات أخرى، وأن يدرس كذلك إمكانية اختيار أكثر من لغة لهذا الغرض (عبد الله على ابراهيم ، 2001م). ولو كان قد قدر لتلك الخطة أن تطبق بنجاح منذ ذلك الحين ، لشكلت نموذجاً صالحاً للاهتداء به فى جبال النوبا وفى غير جبال النوبا.
(2/2) غير أن كلَّ ذلك السداد بقى ، للأسف ، حبيس الشعار البهى. والشعار قد يثير الاعجاب شيئاً ، وربما يهدهد الخيال شيئاً ، ولكم أثارت الاعجاب بالفعل ، وشحذت الخيال ، شعارات (الحكم الذاتى الاقليمى) و(حق القوميات فى التطور والازدهار) وما إليها. غير أن الاقتصار عليها وحدها من شأنه أن يحولها إلى محض ترميزات يُراد لها أن تكون ناجزة بنفسها ، محض (تمائم) و(تعاويذ) و(رُقيات)! وهذا ما ظل يحدث بالنسبة لتلك الأطروحات الفكريَّة والاشارات البرامجيَّة ، حيث تجمدت ، أو كادت ، فى أسر الديباجات العامة ، دون أن تتحوَّل كما ينبغى ، حتى لدى الخبراء والمتخصِّصين من الشيوعيين والعناصر الوطنيَّة الديموقراطية ، إلى علم سودانىٍّ ثورىٍّ نافع ، يطورونه بالمراجعة ، ويثرونه بالاضافة ، ويزدادون قدرة على استنطاق حقائقه التفصيليَّة ، ويتوسلون به لتغيير بنية الوعى الاجتماعى عبر جدل الكدح اليومى وسط الجماهير من مختلف القوميات والتكوينات الإثنيَّة ، أى الجماهير التى لا يمكن الاقتراب من أى مستوى لتثوير أوضاعها بغير الطلب الحثيث لمعرفة أفضل بهذه الأوضاع. أما (استصعاب) هذه المعرفة فمن شأنه أن يغوى بالتراجع حتى عن المستوى الباهر من النظر الذى كان قد بلغه الفكر الثورى فى فترات سابقة. فعلى سبيل المثال، ومقارنة بتلك الاستنارة الباكرة التى دفعت الحزب الشيوعى عام 1954م لترجمة منشوراته السياسية إلى لغة الزاندى قبل توزيعها فى مراكز الناطقين بها ، لم تكترث حملة تعريب الثانوى عام 1965م ، بقيادة الحركة الديموقراطية وسط المعلمين ، لوضع اللغات المحلية فى المناهج الدراسية ، مما اعتبره باحثون شيوعيون] اعتداءً على صلاحيات اللغات الأخرى التى ربما صلحت كوسيط للتعليم ، أو كمادة دراسية للناطقين بها تمهيداً لتصبح ذلك الوسيط ، كما وأن المؤتمر القومى للتعليم (أغسطس 1969م) لم يصدر بشأن لغة التعليم فى الجنوب أكثر من توصية باتخاذ اللغات المحلية بحروف عربية كوسيط للتعليم فى السنتين الأوليين فى مدارس المناطق الريفية ، على أن تحل العربية مكانها ابتداءً من السنة الثالثة (عبد الله على ابراهيم ، 2001م). وهكذا نرى أن (استسهال) السائد فى الوعى الاجتماعى ، والمترتب على (استصعاب) المعرفة (بالآخر) ، يمكن أن يستدير ليفعل فعله حتى فى الفكر الثورى إذا لم يجابه بالقدر اللازم من اليقظة والانتباه!
(نواصل)
الهامش:
] كان عبد الله ما يزال عضواً متفرغاً بالحزب الشيوعى حين أنجز بحثه القيِّم بعنوان (الماركسية ومسألة اللغة فى السودان) ، والذى صدرت طبعته الأولى فى سلسلة (كاتب الشونة) ضمن إصدارات الحزب عام 1977م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.