رسمياً.. ريجيكامب مديراً فنياً للهلال    نهضة تونس و عصار يسيران لوضع خارطة جديدة للكرة بالقضارف    د. أمين حسن عمر يكتب: ديمقراطية أهل السودان    كامل إدريس يحسم الجدل حول تعيين وزير الثروة الحيوانية الذي يملك جنسية اماراتية    هل سيعود المصباح أبوزيد علي متن طائرة كامل إدريس ؟!    ضبط عدد 12 سبيكة ذهبية وأربعة كيلو من الذهب المشغول وتوقف متهم يستغل عربة دفار محملة بمنهوبات المواطنين بجسر عطبرة    اعفاءات من رسوم السكن والتسجيل بالداخليات لأبناء الشهداء والمشاركين في معركة الكرامة    والي النيل الأبيض يزور نادي الرابطة كوستي ويتبرع لتشييّد مباني النادي    الكشف عن المرشحين للفوز بجائزة الكرة الذهبية 2025    حميدان التركي يعود إلى أرض الوطن بعد سنوات من الاحتجاز في الولايات المتحدة    لجنة أمن ولاية الخرطوم تشيد باستجابة قادة التشكيلات العسكرية لإخلائها من المظاهر العسكرية    عزيمة وصمود .. كيف صمدت "الفاشر" في مواجهة الهجوم والحصار؟    مناوي يُعفي ثلاثة من كبار معاونيه دفعة واحدة    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللاجئون السودانيون بالأردن of all places !
نشر في حريات يوم 18 - 12 - 2015


الفاضل عباس محمد علي – الشارقة
استقبلت أوروبا – وعلى رأسها ألمانيا – خلال هذا العام الذى أوشك أن يتصرم حوالي مليوني لاجئ من سوريا، وفى معيتهم بضع آلاف من العراق، كما استقبلت الولايات المتحدة ألف لاجئاً سورياً بكل أريحية وإنسانية، تلك القيم التى غابت تماماً عن التعامل مع حفنة لاجئين سودانيين شاء حظهم العاثر أن يكونوا بالأردن – حسبما جاء فى الشبكة العنكبوتية صباح الأربعاء: فقد قررت الحكومة الأردنية فجأة ترحيل ثمانية آلاف لاجئ سوداني قادمين من مناطق العمليات بدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، إلى الخرطوم، قسراً وعلى جناح السرعة، وقد تم إحضار دفعة منهم إلى مطار الملكة علياء بغرض تسفيرهم؛ وقد ذكر بعضهم أنهم ظلوا بلا طعام أو شراب منذ ست عشرة ساعة، وأنهم تعرضوا لاستفزازات عنصرية من قبل المشرفين الفلسطينيين والأردنيين بمعسكر اللاجئين؛ كما جاء فى نفس السياق أن اللاجئين السودانيين ظلوا بذلك المخيم منذ خمس سنوات، وأنهم حازوا الاعتراف من مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بأنهم لاجئون شرعيون، يحق لهم الانتظار بذلك الموقع المؤقت ريثما يتم ترحيلهم للدول التى سوف تعلن استعدادها لاستقبالهم، شأنهم شأن السوريين – كما يحدث عادة فى مثل هذه الحالات.
وأياً كانت الحقيقة، فلا دخان بلا نار، (والعود لو ما فيه شق ما بقول طق)؛ أي، ثمة مشكلة يتعرض لها اللاجئون السودانيون الآن بالأردن.
ولقد نكأ هذا الحدث جراحاً مكظومة لدي تغافلت عنها، ناوياً تناولها بالقلم فى يوم من الأيام بعد الأوبة للوطن، مساهمة فى التوعية الخاصة بمسألة الهوية، من منطلق التجارب العملية المحسوسة التى عشتها بالخليج العربي طوال ربع قرن من الزمان؛ إذ دخلت فى عشرات المخاشنات اللفظية وغير اللفظية مع آباء ومدرسي هذه العناصر (الزلمية) بسبب ما كان يتعرض له أطفالي أثناء اللعب بزنقات الحي أو بالمدارس، على أيدي صبية (الزلمات) تحديداً، (ومفردها زلمي…المقابل لزول). وعلى كل حال،شب أولادي وبناتي عن الطوق، وكانوا متفوقين فى دراستهم رغم تخذيل المدرسين الزلم، ولم يفقدوا الثقة في أنفسهم بأي حال من الأحوال، وقد خرجوا من تلك المعارك أصلب عودأ وأقوى شكيمة، وأنوفهم فى عنان السماء بحمد الله تعالى، واعين تماماً وفخورين بسودانيتهم.
ولذلك، فإنني أستطيع أن أتفهم ما تعرض له أولئك السودانيون في الأردن، وأحسب أنهم سوف يحشرون فى طائرات النقل المتأهبة بمطار عالية، ويرسلون إلى نظام البشير (لكي يتم الناقصة) ويفتك بهم كما يشاء، إذا لم يتدخل الفضلاء والخيرون فى العالم، مثل البارونة كارولين كوكس نائبة رئيس مجلس اللوردات البريطاني ورئيسة جمعية خيرية لم تنقطع إغاثاتها عن مناطق النزاع السودانية بجبال النوبة (حيث كانت تعمل ممرضة فى سابق الأزمان) وبجنوب النيل الأزرق، وأتمنى أن يتم الاتصال بها فور التأكد من صحة النبأ، – فهي متواضعة وفى متناول اليد.
(على كل حال، وقبل أن أفرغ من هذا المقال، وردتني أخبار بأن الحكومة الأردنية غيرت رأيها وألغت الترحيل القسري لأولئك اللاجئين بسبب مقاومتهم الشرسة للشرطة ودفاعهم الرجولي المستميت عن حقوقهم، وبسبب الهواتف العديدة التى انهمرت على مطار عالية من كل أركان الدنيا….عاش كفاح الشعب السوداني، وعاش الهاتف النقال!).
أس المشكلة:
وبهذه المناسبة، دعنا نقارب السؤال الرئيس:-
لماذا يضطر السودانيون أساساً للهروب من بلادهم ولطلب اللجوء هنا وهناك؟ ولماذا يركبون كل هذه المخاطر ويعرضون أنفسهم لحرس الحدود المصري الذى أبادهم بالعشرات كالحشرات، وللمنظمات الإرهابية الليبية التى جزت رؤوسهم كالشياه، وللسماسرة الدوليين والمتاجرين بالبشر، وأخيراً للزلم الأرادنة والفلسطينيين ليتخلصوا منهم بهذه الطريقة التعسفية والعشوائية، كأنهم قطيع من البعران الضالة وليسو بشراً ومسلمين (وعرب، بالمناسبة)؟
لقد استمرت هذه الحالة من النزوح القسري إلى خارج السودان منذ مجيء الإخوان المسلمين للسلطة فى الخرطوم على ظهور الدبابات فى يونيو 1989؛ وقد بدأت موجات الهجرة منذ أول أيامهم جراء عمليات (التمكين) التي كانت تعني تحطيم جهاز الدولة، بما في ذلك القوات النظامية والجامعات، وبناءها مجدداً بالكوادر الإخوانية؛ فتمّ تشريد الآلاف المؤلفة من السودانيين، وأنا واحد منهم، الذين وجدوا موئلاً دافئاً بالسعودية ودول الخليج العربي والدول الأوروبية، خاصة هولندا وبريطانيا والنمسا والدول الإسكندنافية، وبالطبع الولايات المتحدة. ولما تصاعدت الحرب الجهادية بالجنوب، تدفق أكثر منمليوني لاجئ نحو القرن الأفريقي وشرق افريقيا، وأقامو هناك طوال الفترة 1990-2005، أي حتى إبرام اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل CPA. وفى تلك الظروفأيضاً، أي منذ 2003، تفجّرت مشكلة دارفور، وفر اللاجئون صوب تشاد وإفريقيا الوسطى بمئات الآلاف، وتمكن العديد منهم من بلوغ التخوم الشمالية للصحراء الكبرى،وأخذوا يتسللون بالقوارب المهترئة إلى الشواطئ الأوروبية، ومنهم من قضي نحبه في لجة بحر الروم، ومنهم من عبره بتوفيق من رب العالمين إلى الدول الأوروبية التي أكرمت وفادتهم ومنحتهم السكن والعلاج وفرص العمل… إلخ؛ ولقد قابلت العديد منهم في فينّا وميونيخ وهانوفر وبراغ ولندن وبرايتون، ونشأت بيني وبينهم صداقات نضالية خالدة بإذن الله. وبالتزامن مع حرب دارفور، تفجّرت العدائيات بجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق منذ خمس سنوات، ولا زالت حامية الوطيس، ومازال اللاجئون يتدفقون شرقاً وغرباً، وكلهم يستهدفون الدول التي تحسن معامل اللاجئين؛ ومن تنكبّ منهم الطريق وعثرت رجله بالحدود المصرية الإسرائيلية فهو هالك لا محالة برصاص القناصة المصريين، ومن يظن خيراً بدولة كالأردن، يحدث له ما حدث بالأمس للاجئين السّمر المساكين بمطار الملكة علياء.
وفي هذه الأثناء، ليس هنالك ضوء فى آخر نفق الحروب السودانية، ولا تبالي حكومة الإخوان المسلمين بالنتائج الكارثية لتلك النزاعات التي سوف تنجم عن المزيد من التشظي والتقسيم بالنسبة للوطن، على نسق المصير الذي حاق بالجنوب، وهو الانفصال التام عام 2011، على الرغم من أن حلاً كهذا لا يجلب السلام النهائي والشامل بالضرورة، فلقد ظل جنوب السودان غارقاً لشوشته في حروب داخلية بين الدينكا والنوير منذ استقلاله حتى الآن، ولربما إلى يوم يبعثون؛ و هي حروب سيطال أثرها باقي السودان لا محالة، وقد بدأ اللاجئون الجنوبيون يتدفقون نحو الشمال، ولعلهم أيضاً يستهدفون دولاً أخرى أكثر رحمة باللاجئين.
وفي هذه الأثناء كذلك، يتشدق النظام الإخواني السوداني بالألفاظ الخطابية الطنّانة الجوفاء، ويسترسل في مسرحيات العلاقات العامة التي يحاول بها أن يجمّل وجهه أمام الدول العربية، مدّعياً أنه قد بدّل جلده الإرهابي، وأنه قد انفتح على المعارضة وأدار معها حواراً يهدف لتوزيع السلطة والثروة بصورة أكثر عدلاً؛ بينما نجده في نفس الوقت يبطش بشباب "حق" وحزب المؤتمر وأبناء دارفور بالجامعات، ويعتدي على الصحفيين- حتى الإسلاميين المعتدلين مثل عثمان ميرغني ويوسف التاي اللذين اعتقلا بالأمس وصودرت صحيفيتهما.
لقد أصبح السودان دولة بوليسية بمعنى الكلمة، وسفاراته بالخارج أوكار للمخبرين وضباط الأمن وكوادر ومنسوبي التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذين يتخابرون لصالح ذلك التنظيم الأخطبوطي، حيث أن دولتهم تشكل أحد أذرعه الرئيسية بالقارة الإفريقية. وبما أن نظام الخرطوم يتكئ على قوى مؤثرة بالشرق الأ,سط ومنطقة الخليج، فهو غير معني بمصالح أهل السودان، ولا يضع لهم أي حساب؛ ولو انقسمت البلاد إلى سبع دويلات ولم يبق منها إلا (مثلث حمدى) فذلك هو المرام، إذ ستصبح إدارتها أكثر سهولة، ويصبح التماهي مع الفضاء العربي / الإسلامي (النفطي) أكثر منطقية، بعد التخلص من ذوي السحنات السمراء المتفحّمة بالجنوب والغرب والجنوب الشرقي (باعتبار أن الشماليين أقل سمرة، أو هكذا يتوهمون ويتوهم معظم الأعراب الذين يجهلون حقيقة الفسيفساء السودانية). وفي نفس الوقت، انهار الاقتصاد وتردّت الأحوال المعيشية بالسودان وشحّت البضائع بالأسواق وتفاقمت أزمة الغاز وضروريات الحياة الأخرى، بينما تراكمت الثروات الخرافية لدى البشير ورهطه الأقربين والمهراجات الإسلامويين الوالغين في أموال السحت، رجالاً ونساء. (قرأت البارحة تصريحاً للدكتور فيصل القاسمي نعت فيه ما تسمى بوداد زوج البشير بأنها إمرأة سطحية لا همّ لها عندما تزور قطر سوى اقتناء المجوهرات والتبضّع فى المولات.) وكنت أحسب أن الحكاية ذهب فقط، إذا بنا قد ولجنا عصر الماس والزمرد والياقوت، بينما يتضور أبناء وبنات شعبنا من الجوع والمسغبة والأمراض المستوطنة.
الحلف العسكري:
وبينما تعدّ المعارضة عدتها للإطاحة بنظام البشير الفاسد والفاشل، وبينما يترنحّ النظام ويوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، تفاجئنا الأخبار بقيام حلف عسكري من أكثر من ثلاثين دولة عربية وإسلامية بقيادة السعودية لمحاربة الإرهاب ومطاردته حيثما كان، والسودان واحد من تلك المنظومة كما يقول الخبر، مما يوحي بأن هذا النظام قد تحوّل بين ليلة وضحاها من جسم إرهابي إخواني متطرف إلى كيان معتدل شبيه بالدول التي تألف منها الحلف، والتي عقدت العزم على دحر الإخوان المسلمين بكافة تجلياتهم حيثما ثقفوهم.
هل هو فعلاً حلف عسكري مثل الناتو أو حلف بغداد السابق، بموجب اتفاقية رسمية وقّعت عليها الدول الأعضاء وأجازتها الجهات التشريعية والتنفيذية؟ أم لعله ترتيب دبلوماسي أدهوكي محدود زمان السريان والصلاحيات؟ أيا كان، فإن الشعب السوداني لم يسمع به، وقد طالعه في أخبار التلفزيون بكثير من الدهشة وعالجه بشيء من السخرية؛ بل لم يستشر الرئيس البشير حتى مؤتمره الوطني الحاكم، وربما لم يأخذ رأي حكومته نفسها؛ ولقد صدر النبأ عن الرياض وليس الخرطوم، ولم تعلق عليه الأخيرة قبولاً أو رفضاً.
على كل حال، ربما كان الموضوع برمته تمرين فى "العلاقات العامة" يستهدف الدولة الإسلامية بالعراق والشام – داعش – عله يلقي في روعها أن الطامة الكبرى ستحيق بها عما قريب؛ ولا مندوحة من اتجاه كهذا، فالجميع ضد داعش ويرغب في إزالتها من الوجود بسبب ما ارتكبته من فظائع يندى لها جبين البشرية، خاصة المسلمين، إذ أن تلك الفظائع، بما في ذلك هجومي باريس وفلوريدا، تتم بإسم الإسلام، كنوع من الجهاد ضد النصارى. أما أن تكون حكومة الإخوان المسلمين السودانية جزءً من تلك المنظومة المناوئة للإرهاب فذلك أمر عجب، كأننا قد استودعنا الحملان عند الذئب ليقوم بحراستها؛ إنه خلط للأوراق يبعث على الحيرة العميقة، ويزرع البلبلة فى صفوف الجماهير.
وربما كان الباعث للثقة في نظام الخرطوم التصريحات التي أدلى بها البشير عند زيارته الأخيرة للإمارات، وأدان فيها تنظيم الإخوان المسلمين الدولي ووصفه بالمتآمر. بيد أنه كان فقط مثل "القيتون":
(إذا سبّح القيتون يوماً… هم بسرقة، فاحذر من القيتون حين يسبّح)
وما كانت تلك التصريحات إلا ذراً للرماد في العيون بغرض الاستهلاك المحلي؛ وكان الدافع الحقيقي هو الإفلاس الرهيب الذي تعاني منه خزينة الدولة بعد تجفيف مصدر تمويلها الرئيس وهو النفظ، بعد انفصال الجنوب، وبسبب الحروب التي ظلت تدور بمناطق إنتاجه منذ بضع سنوات. وهي، على كل حال، مجرد تصريحات (أي حكي في حكي)، ولم يصدر عن الدولة السودانية أي بيان يوضح التحول الإيديولوجي الإستراتيجي الذي طرأ عليها ونقلها من مربع الإخوان المسلمين إلى المربع المناوئ؛ ولو فعلت ذلك لتغيرت كثير منالمواقف المحلية والإقليمية والدولية:-
– محلياً: تكون المسافة بينها وبين المعارضة قد تقلصت بقدرة قادر إلى درجة الصفر، ويكتسب ما يسمى بالحوار الوطني الراهن أبعاداً منعشة جديدة قد تنتهي به إلى خواتيم موفقة وسعيدة بالنسبة لكل الأطراف المعنية.
– إقليمياً: سوف تخرج حكومة الخرطوم من المحور الشيطاني الداعم للإرهاب، وستنفض يدها من الإتفاقيات المبرمة مع النظام الإيراني والتى بموجبها ما زالت إيران تصنع السلاح والذخيرة بالسودان، ليتم تهربها من ثم إلى اليمن وغزة وليبيا والصحراء الكبري وغرب إفريقيا عبر السودان؛ وسينعكس ذلك إيجاباً على العلاقات مع الشقيقة مصر التى تعتبر سودان البشير ملاذاً للإرهابيين الإخوانجية، وممولاً لهم بالسلاح والعتاد واللوجستيات.
– دولياً: ربما تعيد الأسرة الدولية النظر فى موضوع الحظر الإقتصادي المفروض على السودان باعتباره دولة راعية للإرهاب، وربما كذلك تبحث الأسرة الدولية عن مخرج لموضوع محكمة الجنايات الدولية التى تطالب بمثول الرئيس السوداني أمامها باعتباره متهماً بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، شأنه شأن القادة الصرب والكروات الذين انتهى بهم الأمر في لاهاي بهولندا حيث واجهوا القصاص.
طوق النجاة:
ويبدو أن الحلف العسكري المذكور لم ينجح تماماً كطوق نجاة ينقذ نظام البشير من الغرق، إذ طارت إشاعة من أروقة المؤتمر الوطني الحاكم فى اليومين الماضيين، وتقاذفتها صحف البارحة، مفادها أن النظام قد يرحب بحكومة قومية انتقالية يرأسها البشير نفسه، لفترة تتراوح بين عام وستة أعوام؛ وهي في الحقيقة بالونة اختبار فى أجواء حبلي بالتوقعات والتخرصات المتعددة والمتضاربة الخارجة من لدن المعارضة، أو من الانتهازيين الممسكين للعصا من نصفها، أو من دهاقنة النظام الذين تقطعت بهم الأسباب وضاقت الحلقة حول أعناقهم – بينما تبدو البلاد تماماً مثل الصومال في آخر أيام الدكتاتور الجنرال زياد بري.
بيد أن الحكومة القومية المؤقتة هي فعلاً الحل الأمثل للأزمة الراهنة، شريطة أن يبتعد عنها البشير تماماً، وأن تستوفى الاستحقاقات الأخرى، مثل:-
– التخلي عنوشجب الإيديولوجية الإخوانية التى ظلت تهيمن على البلاد منذ 1989، والرجوع لدستور 1955 المعدل 1964 و1985 ، ريثما يتم وضع دستور مدني ديمقراطي علماني جديد.
– إبعاد كل الفاسدين المعروفين والرموز الإخوانية عن جهاز الدولة وعن رئاسة المصارف والمؤسسات والأجهزة الإعلامية والصحف والقضاء.
– إلغاء كل حكومات الأقاليم، ودمجها فى ست ولايات فقط تديرها أطقم وطنية ذات كفاءة ونزاهة، مع تقليص الحقائب وتخفيض االمنصرفات.
– تغيير كل قيادات الأجهزة الأمنية والقوات النظامية، وجلب الشخصيات المناسبة من الضباط الوطنيين المفصولين للصالح العام خلال حكم الإخوان المسلمين، لإدارتها، وتغيير القوانين القمعية التى تسترشد بها تلك الأجهزة.
– الإتفاق على ميثاق يحكم الفترة الانتقالية ويوضح سياسات حكومتها الخارجية والداخلية.
آخر الكلم:
يمر السودان حالياً بمفترق طرق خطير كما تشير كل الدلائل: إما أن تستمر الفوضى الحالية والحروب المناطقية المؤدية إلى التشرذم والكنتنة الصومالية، وإما أن يستنسخ الشعب السوداني الصفحات الناصعة من تاريخه، ويعيشها مجدداً: وهي تحديداً صفحات الانتفاضات السلمية فى أكتوبر 1964 وإبريل 1985 التى أطاحت بأنظمة عسكرية مدججة بالسلاح والأجهزة الاستخباراتية المتنمرة….فيحزم أمره ويتوكل على الحي الدائم ويندلق إلى شوارع العاصمة المثلثة والحواضر الأخري، مسلحاً بفروع النيم فقط…وبقدر ما تكون ثورته سلمية وبعيدة عن التخريب والعدوانيات…بقدر ما تستقطب الواقفين على الرصيف (الأغلبية الصامتة)…وتكتسب تعاطف الأجهزة الأمنية التى كانت تفتك بالمتظاهرين حتى الأمس القريب…وبقدر ما تجتذب تضامن ومساندة القوى الشعبية الإقليمية والعالمية.
إن الحل الأنجع للمشكل السوداني هو الانتفاضة الشعبية…أما الحوارات التى تدور فى الغرف المغلقة سواء فى الخرطوم أو أديس أبابا فهي لن تجد نفعاً، إذ أنها الأسلوب المفضل لدى الإخوان المسلمين المجبولين على المماطلة والمماحكة وكسب الزمن، حيث أنهم متأثرون بإسحاق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الذى كانت فلسفته الحوار مع الفلسطينيين لعشرات السنين، بينما تتصلب الحقائق الإمبريالية الصهيونية على الأرض، ببناء المزيد من المستوطنات بالضفة الغربية، وتثبيتها وتكريسها.
إن الحوار المجدي والجاد الوحيد هو الذى يدور بين ممثلي الحكومة والمعارضة…على خلفية التظاهرات الهادرة بالشوارع فى نفس الوقت، وربما ستردد تلك الجموع أبيات شاكر مرسال التى صدع بها فى وجه دكتاتورية الجنرال عبد عام 1958:
ولدت سفاحاً فما (أنت حر) واجه مصيرك أو فانتحر!
والسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.