مفاوضات الجنرالين كباشي – الحلو!    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    مستشفي الشرطة بدنقلا تحتفل باليوم العالمي للتمريض ونظافة الأيدي    إنطلاق دورة أعمال الشئون القانونية التي تنظمها الإدارة العامة لتدريب الضباط بقاعة دار الشرطة عطبرة    مليشيا الدعم السريع تجتاح قرية البابنوسة شرق مدني وتقتل وتصيب 8 أشخاص    تعرف علي أين رسم دافنشي «الموناليزا»    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    برقو لماذا لايعود مديراً للمنتخبات؟؟    صابر الرباعي بعد نجاح أغنيته: تحبوا تقولوا عليا باشا تمام كلنا بشوات    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    السودان يشارك في اجتماعات الفيفا    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    مصر تدعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام العدل الدولية    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    الروابط ليست بنك جباية وتمكين يا مجلس!!    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني "الشكري" يهاجم الفنانة نانسي عجاج بعد انتقادها للمؤسسة العسكرية: (انتي تبع "دقلو" ومفروض يسموك "السمبرية" وأنا مشكلتي في "الطير" المعاك ديل)    شاهد بالصورة والفيديو.. بطريقة "حريفة" ومدهشة نالت اعجاب الحاضرين.. سائق سوداني ينقذ شاحنته المحملة بالبضائع ويقودها للانقلاب بعد أن تعرضت لحريق هائل    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكري الاستقلال رقم 60 : كيف تمكن الأستاذ محمود من انتزاع حقوق السجين السياسي؟؟
نشر في حريات يوم 14 - 01 - 2016


في ذكري الاستقلال رقم 60
كيف تمكن الأستاذ محمود من انتزاع حقوق السجين السياسي؟؟
د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
(1-3)
ولدت الحركة السياسية في مؤتمر الخريجين على أثر إعلان ميثاق الأطلنطي عام 1942م، الذي وقعت فيه بريطانيا على إعطاء البلدان التي تساندها في الحرب العالمية الثانية حق تقرير المصير.. ومن هنا بعث المؤتمر للحكومة بمذكرة يطالب فيها، إلى جانب مطالب أخرى، بحق تقرير المصير، وقد أحاط تلك المذكرة بتكتم شديد عاشت فيه حتى لجان المؤتمر الفرعية في ظلام دامس، فردت عليه الحكومة ردا يحمل كل الاستخفاف.. ثم أخذ يتداول مع الحكومة الردود بهذا الشأن، بدون أن يعنى بأن يقول للجان الفرعية، بله الشعب، كيف يريد أن يكون هذا المصير الذي يريد أن يُمنح حق تقريره.. ثم مضت فترة، وسرت في المؤتمر روح شعبت أتباعه شعبا على أساس الصداقات وتجانس الميول، مدفوعين بحب الغلبة على كراسي المؤتمر، ثم اتخذ كل فريق اسما سياسيا وبدأ التفكير عند القادة ساذجا صبيانيا!! فقد تخيّل بعضهم أنهم عندما يجتمعون على المطالبة بتقرير المصير، سوف تقدم انجلترا الحجة على عدم نضجهم السياسي، وسوف تقنع الدول الأخرى بذلك وتطلب وضع السودان تحت إشراف دولة عليمة بإدارة شئونه، ولا يكون لهم خلاص، حينذاك، من الإنجليز إلا بالتشبث بالدولة الأخرى الشريكة – مصر ذات الخبرة..
ثم ماذا ؟ ثم يخرج السودانيون المصريين "بالسوط" !! هكذا كانوا يقولون!!
ومن هنا جاءت الدعوات إلى مصر!!
أما وحدة وادي النيل فجاءت من النفر الذين عاصروا حركة 1924م، ولم تتح لهم ظروف تغيبهم عن السودان ومسايرة التطورات الفكرية والقومية، التي جدت بعد ذلك التاريخ..
وجاءت دعوة الاتحاد مع مصر تحت التاج المصري، من فريق عملت فيهم عوامل الفكر والقومية السودانية، ولكنهم كانوا يرون أن السودان لا يمكن أن يقوم على رجليه من غير مساعدة خارجية.. وجاءت دعوات أخرى تريد مع مصر أشياء، لاهي بهذا ولا هي بذاك، وإنما هي تختلف عنها اختلافا هو على أقل تقدير، في أخلاد أصحابه كاف لأن يجعل لهم لونا يميزهم عن هؤلاء وأولئك يستطيعون عن طريقه جمع السند لمنازلة الآخرين، والفوز بكراسي المؤتمر..
قلنا عاد التكتل لصفوف الخريجين هذه المرة على أساس الصداقات، فبرزت كتلة الأشقاء، وهو اسم تهكمي أطلقته كتلة ود أبوروف على هذه الشلة، وقد اشتق اسم الأشقاء من قرابة الأشخاص الذين تكونت منهم هذه الجماعة، وهم السادة: إسماعيل الأزهري وعلى الأزهري، يحي الفضلي ومحمود الفضلي، أحمد محمد يس وحسن محمد يس…الخ..
أما جماعة ود أبوروف- كتلة الاتحاديين- فهم السادة: إبراهيم يوسف سليمان، عبد الله ميرغني، إسماعيل العتباني، حسن أحمد عثمان الكد، حسين أحمد عثمان، حماد توفيق وآخرين..
وأما كتلة السيد عبد الرحمن المهدي فهم السادة: إبراهيم أحمد، عبد الله خليل، محمد الخليفة شريف، عبد الله الفاضل، عبد الكريم محمد، محمد على شوقي، الصادق شوقي ومحمد صالح الشنقيطي..
لم يقم خلاف بين كتلتي الأشقاء وود أبوروف يبلغ درجة الخصومة، ولكن الخلاف بدا ظاهرا، ومن الوهلة الأولى، بين كتلة الأشقاء التي يترأسها السيد إسماعيل الأزهري وكتلة أصدقاء السيد عبد الرحمن التي يترأسها السيد إبراهيم أحمد.. وعندما انهزمت هذه الكتلة- أصدقاء السيد عبد الرحمن- في الانتخابات الأولى لجأت للأنصار، وأخذت تستعين بهم، ووجدت ثغرة فاتحة في دستور مؤتمر الخريجين، لأن كلمة خريج كانت تعني أي شخص يزكيه اثنان من الخريجين بأنه خريج.. فكلمة خريج كانت تعني حتى من أكمل تعليمه الأولي، فاستطاعت بذلك، أن تهزم جماعة الأشقاء في انتخابات الدورة التالية واستولت على هيئتي القيادة!!
هزت الهزيمة جماعة الأشقاء، واتضح لهم أن كراسي المؤتمر أصبحت بعيدة المنال، فأخذ السيد يحي الفضلي يتودد للسيد محمد نور الدين وكيل البنك الأهلي المصري ومن كبار الختمية ليكسبه إلى جانب الأشقاء، وهكذا استطاعت كتلة الأشقاء أن تلقى السند من الختمية، وتهزم كتلة أصدقاء السيد عبد الرحمن في آخر دورة للمؤتمر جمعت الخريجين!!
على أثر هذه الهزيمة، ظهر حزب الأمة بالغا مكتملا برئاسة السيد الصديق المهدي وسكرتارية السيد عبد الله خليل، وضم أصدقاء السيد عبد الرحمن وزعماء العشائر.. وبهذا انفرط عقد الخريجين، وانتقل الصراع إلى ميدان واسع ونزلت الطائفية إلى الشارع تنشر أحقادها وسخائمها وعداوتها التقليدية بين أفراد هذا الشعب الطيب وقادة الكتلتين من ورائها يغذونها سوءا وخوفا وأكاذيب!! فقام قادة الأشقاء بدعاية تقول إن السيد علي الميرغني عزم على تصفية أملاكه، والرحيل إلى مصر بعائلته لأن الإنجليز سوف يتوجون السيد عبد الرحمن ملكا على السودان، وكان لغموض حزب الأمة، ما أثار الريب وأخاف الختمية ودعاة الاتحاد مع مصر، فأخذوا يتمسكون بدعوتهم أكثر من ذي قبل.. ومن ذلك التاريخ أصبحت كل معركة تدور بين الأحزاب، هي في حقيقتها معركة بين رجلين، وتنافس بين طائفتين!! وأصبح العمل السياسي ستارا يحجب عن الشعب تشفي الطائفتين من بعضهما البعض، وحرص الطموحين من الخريجين على كسب السند الشعبي الذي يكونون به زعماء!!
هنا أدرك بعض الخريجين، أن المؤتمر قد فشل في أداء رسالته في جمع شتات الخريجين، والسير بالشعب في طريق الوعي, فزهدوا فيه، فوقف بعضهم من المؤتمر موقفاً سلبياً، ورأى البعض الآخر أن يقف موقفاً ايجابياً ويعمل خارج المؤتمر.. فنشأ الحزب الجمهوري في أكتوبر عام 1945م، وكان أول حزب جمهوري، وفكرة إنشائه ترجع للأخ أمين مصطفى التني وهو لم يستمر طويلاً عضواً في الحزب..
تكون هذا الحزب في بادئ الأمر من محمود محمد طه، أمين مصطفي التني ، منصور عبد الحميد، إبراهيم المغربي ، محمود الأزهري، أحمد محمد خير، إسماعيل محمد بخيت ، صالح عبد القادر ، عبد القادر المرضي وحسن طه.. وعقد أول اجتماع له بالمقرن تحت الشجرة التي تقوم عند المسطبة، عند المدخل الشرقي.. وقد أعقبت هذه الجلسة جلسات أخرى بجهات مختلفة نوقش فيها دستور الحزب مراراً، وتم إقراره نهائياً في أول جلسة أثبتت بسجل وقائع الجلسات، في يوم 28/ 10/1945م، بإجماع كل الحاضرين من أعضاء اللجنة التمهيدية وهم السادة المذكورين آنفاً فيما عدا إبراهيم المغربي واحمد محمد خير، اللذين تغيبا عن هذه الجلسة.. وفي هذه الجلسة وضعت النقاط التي تبين هيكل المذكرة التفسيرية التي تصحب الدستور وقد أوكل إعدادها لعبد القادر المرضي..
وفي هذه الجلسة أيضاً أجريت الانتخابات لتكوين المكتب فكانت نتيجتها كما يلي :-
محمود محمد طه رئيساً
إبراهيم المغربي نائب رئيس
عبد القادر المرضي سكرتيراً
أمين مصطفى التني نائباً للسكرتير
احمد محمد خير أميناً للصندوق
الباقون أعضاء
دستور الحزب عام 1945م :-
الاسم : الحزب الجمهوري
المبدأ: الجلاء التام..
الغرض: (أ) قيام حكومة سودانية ديمقراطيه حرة مع المحافظة على السودان كامل حدوده الجغرافية..
(ب) الوحدة القومية..
(ج) ترقية الفرد والعناية بشأن العامل والفلاح..
(د) محاربة الجهل..
(ه) الدعاية للسودان..
(و) توطيد العلاقات مع البلاد العربية والمجاورة..
العضوية: 1- لكل سوداني بلغ من العمر 18 سنة..
2- لكل مواطن ولد بالسودان وكانت إقامته فيه لا تقل عن عشرة سنوات.. مال الحزب : يصرف في الأغراض التي نشأ من أجلها الحزب.. مذكرة تفسيرية لما كانت الغاية من قيام الحكومات، هي أن تهيئ للفرد أقصى ما يمكن أن يصل إليه من الرفاهية، رأت هذه الجماعة التي تكونت باسم "الحزب الجمهوري "، أن أنسب نظام يلائم نفسية هذا الشعب، ويتجاوب مع رغباته، ويحترم أعراضه، ويحمي منافعه، هو قيام حكومة جمهورية ديمقراطية حرة.. وقد توخت جماعتنا أن تبين نوع الحكم الذي تسعى إليه لئلا يكون هناك ما من شأنه أن يترك الناس في ظلام من أمرهم.. ذلك بأن الحكم الجمهوري لا يجعل فضلاً لمواطن على آخر إلا قدر صلاحيته وكفاءته للاضطلاع بالأعباء المنوطة به، ولأنه من ناحية أخرى لا يقيد الناس بضرب من ضروب الولاء والتقديس اللذين لا مصلحة للإنسانية فيهما.. وخلاصة القول أن هذا الحزب وكما هو ظاهر، يرى أن النظام الجمهوري، هو أرقى ما وصل إليه اجتهاد العقل البشري في بحثه الطويل عن الحكم المثالي، وعلى هذا الأساس وللأسباب المذكورة فضله..
والسبل المؤدية إلى هذا الهدف قد يختلف الناس في فهمها، أما رأي هذا الحزب فهو أن مثل هذه الغاية لا تتم إلا بالتحرر من النفوذ الأجنبي في جميع مظاهره.. ذلك لأننا نؤمن بأنا قد بلغنا درجة نستطيع بها أن ندير شئوننا بأنفسنا، وليس أدعى لتجويد هذه الخبرة اللازمة لفن الحكم من أن نمارس هذا الفن نفسه ممارسة غير مشوبة، وعلى الطريقة التي نرتضيها..
وعلى ضوء هذه الحقيقة تتكشف لنا حوائج نستدعي منا التفاتاً خاصاً:
الجمعة:20 ذو القعدة 1364
الموافق : 26 أكتوبر 1945م
(من مذكرات الأستاذ أمين محمد صديق سكرتير الحزب الجمهوري)
في ذكري الاستقلال (2-3)
كيف تمكن الأستاذ محمود من انتزاع حقوق السجين السياسي؟؟
د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
نزلت الطائفية الميدان فأشعلت حرباً شعواء بين طبقات الشعب المختلفة، ولجأت لأنواع من السباب والخصومة وأساليب من الرعونة، لم يعرفها الخلق السوداني من قبل.. وانقسم السودانيون – جميع طبقاتهم – انقساما لم يعرفوه في تاريخهم الطويل، فاغتنم الانجليز والمصريون هذه الفرصة, وتدفقت الأموال المصرية وامتلأت منها جيوب قادة أحزاب الوحدة, وبذل الإنجليز نفوذهم لقادة حزب الأمة وأتباعه، وأوعزوا لزعماء القبائل بمساندته، والانضمام إليه، كما قامت كل أجهزة الحكومة بشد أزره وممالأته على أحزاب الوحدة.. وانحرفت الصحافة السودانية ولم تفرط في نصيبها من الرشاوى، التي كانت تقدم لبعض رؤساء التحرير وأصحاب الامتياز من مصر، وللبعض الآخر من الإنجليز.. فأصبح رؤساء التحرير وأصحاب الامتياز أبواقاً يعددون حسنات السادة المصريين والإنجليز!!
في هذا الجو الخانق، انبرى الحزب الجمهوري يحذر مغبة الشحناء، ويدعو قومه في لين وفي شدة، إلى الجادة، ويصدر النشرات لتوعية الشعب وكشف أساليب قادة الأحزاب المضللين..
فأصدر المنشور أدناه :
منشور ((1))
((يا جماعة الأشقاء.. ويا جماعة الأمة))
يا جماعة الأشقاء.. ويا جماعة الأمة.. أيها القاسمون البلاد باسم الخدمة الوطنية.. أيها القادحون قادحات الإحن فيما بين أبناء الأمة.. أيها المذكون ثائرات الشر والتفرقة والقطيعة.. إنكم لتوقرون أمتكم وقراً يؤدها!!
يا هؤلاء وهؤلاء: أنتم تتمسحون بأعتاب المصريين لأنكم لا تقوون على أعمال الرجال الأشداء.. وأنتم تتمسحون بأعتاب الإنجليز لأنكم صورتم المجد في أخلادكم صوراً شوهاء.. أنتم تريدون السلامة، وانتم تريدون الملك.. أنتم تستغلون سيداً لا يعرف ما تريدون وانتم يستغلكم سيد يعرف ما يريد، والبلاد بينكم أنتم وأنتم على شفا مهواة ومهانة!!
فليلطف الله ببلاد لا يخدم نهضتها إلا صغار الموظفين أو كبار الموظفين، وليتدارك الله ديناً باسمه يحيا أناس في برد العيش، وقرار النعمة، ورخاء الدعة، وباسمه هم لأبنائه يكيدون!!
يا هؤلاء وهؤلاء: إن الله لواحد وان الدين لواحد و إن الوطن لواحد، ففيم تتقسمون على هذا النحو المزري!!
يا هؤلاء وهؤلاء: لأنتم أشأم على هذه البلاد من كل شؤم وشؤم!!
يا هؤلاء وهؤلاء: كونوا ليوثاً غضاباً، أو فكونوا قردة خاسئين، وارحموا شباب هذا الوادي المسكين فقد أوسعتموهم غثاثة وحقاراً وهواناً!!
أيها السادرون من هؤلاء وهؤلاء: لا تحسبن أن الكيد لهذه الأمة مأمون العواقب.. كلا.. فلتشهدن يوماً تجف لبهتة سؤاله أسلات الألسن – يوماً يرجف كل قلب ويرعب كل فريصة..
الحزب الجمهوري
قرار مؤتمر الخريجين ووثيقة الأحزاب:
قلنا في كلمتنا عن تكوين الأحزاب السياسية من داخل مؤتمر الخريجين: ((ثم انقضت فترة، وسرت في المؤتمر روح شعبت إتباعه شيعاً على أساس الصداقات وتجانس الميول مدفوعين بحب الغلبة على كراسي المؤتمر ثم اتخذ كل فريق اسماً سياسياً، فكان منهم من يريد للبلاد اندماجاً مع مصر، ومنهم من يريد لها اتحاداً معها، ومنهم من يريد لها شيئاً لا هو بهذا ولا هو بذاك، وإنما هو كاف لأن يجعل لهم لوناً سياسياً يميزهم عن هؤلاء وهؤلاء ))..
ولكن الأجاويد لم يسرهم أن ينفرط عقد المؤتمر فسعوا بين هؤلاء وهؤلاء لتوحيد الكلمة وقد كان, فخرج قرار المؤتمر يدعو الى (( قيام حكومة سودانية ديمقراطية في إتحاد مع مصر وتحت التاج المصري ))!!
ولكن الأجاويد لم يكتفوا بذلك، فلا بد لهم وقد نجحوا في أن يوفقوا بين أحزاب المؤتمر المختلفة، بشئ من التنازلات عن مبادئها المعلنة، بأن يطلبوا من زعيم هذه الأحزاب السيد إسماعيل الأزهري أن يتنازل بعض الشئ عن هذا المبدأ الجديد المعلن، ومن قادة حزب الأمة أن يتنازلوا لبعض الشئ عن مبدئهم (( السودان للسودانيين )) ليلتقي الجميع في نقطة بجمع الشمل..
فكانت مساومات وكانت ترضيات بين من يريدون المصريين، ومن يريدون الإنجليز، فظهرت الوثيقة ( هكذا أسموها هذه المرة ) الوثيقة التي تنص على: (( قيام حكومة ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطانيا !!))
على إثر هذا أصدر الحزب الجمهوري البيان التالي:
موقف الحزب الجمهوري
من مؤتمر الخريجين ووثيقة الأحزاب:
يتساءل بعض المهتمين بشئون المجتمع عامة والدوائر السياسية خاصة، عما سيكون عليه موقف الحزب الجمهوري من المؤتمر، ومن وثيقة الأحزاب، وهذا ما حدا بنا إلى إصدار هذا البيان ليقف المتسائل على الحقيقة التي ينشدها..
أولاً:- إن هذا المؤتمر يسمى رسمياً مؤتمر الخريجين العام، وهذا معناه، أن أي عمل ينطوي تحت لوائه إنما يعبر عن آراء وغايات الخريجين، لا عن سواهم من المواطنين، لأنهم غير أعضاء فيه..
ولما كان الحزب الجمهوري قد فتح عضويته لكل سوداني قد بلغ من العمري الثامنة عشرة، ولكل مواطن ولد بالسودان، أو كانت إقامته لا تقل عن عشر سنوات لم يبارح خلالها البلاد، فإن أي عمل يقوم به هذا الحزب تحت لواء المؤتمر، إنما يحمل اسم خريجي هذا الحزب وحدهم، ولا يعبر عن بقية أعضائه الذين يكونون الأغلبية فيه.. ولهذا سوف لا يعمل الحزب الجمهوري سياسياً تحت لواء المؤتمر..
أما عندما يصبح هذا المؤتمر مؤتمر السودان العام، ويصبح لكل سوداني حق العضوية فيه، فسوف يقرر الحزب الجمهوري موقفه من جديد.. وأما في نطاق الإصلاحات الاجتماعية فسوف يتعاون الحزب مع أي هيئة تضطلع بها دون أن يكون هذا التعاون مقيداً بضرب من ضروب التبعية..
هذا وموقفنا إزاء وثيقة الأحزاب يتلخص في أننا من جانبنا لا نقرها، لأنها تختلف في جوهرها اختلافاً واضحاً عند دستورنا..
على أننا لا نفهم لماذا نتقيد باتحاد وتحالف، فنضع بذلك حق البلاد الطبيعي في الحرية موضع المساومة، بأن ندفع ثمن الحرية اتحاداً مع هذا أو تحالفا مع ذاك!!
عبد القادر المرضي
سكرتير الحزب الجمهوري
9/11/1945م
مناهضة قانون الخفاض الفرعوني:
في عام 1946م أصدر المجلس الاستشاري لشمال السودان قانون منع الخفاض الفرعوني .. فأخرج الحزب الجمهوري منشوراً بإمضاء رئيسه يهاجم فيه المجلس الاستشاري ويوضح فيه رأيه في القانون وفي موضوع الخفاض..
وقد لخص الأستاذ محمود محتوى المنشور لطلاب معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم عام 1975م بالآتي:
( إن لكل أمة عادات حسنة وعادات سيئة، وعادة الخفاض الفرعوني عادة سيئة .. لكن العادات السيئة في الشعوب لا تحارب بالقوانين، وإنما تحارب بالتنوير والتعليم والإقناع .. الانجليز لم يكن غرضهم من إصدار القانون كرامة المرأة ، وهم في الحقيقة فتحوا لها سوق النخاسة وكل الأبواب التي لا تكون بها كريمة.. فغرض الانجليز الحقيقي من إثارة موضوع الخفاض، وقد أثير ذلك في البرلمان البريطاني، أن يقولوا للعالم في رد علي حركتنا الوطنية ، أن السودانيين لا يزالون همجيين يمارسون عادات متخلفة كهذه ولذلك فإنهم لم يبلغوا الرشاد الذي يؤهلهم لحكم أنفسهم، ليستمروا في البقاء بالبلاد)..
هذا هو ملخص محتوي المنشور .. وبالفعل كان المنشور مثيراً وأحدث رد فعل مباشر من جانب الانجليز ، فأرسلوا الخطابين التاليين إلي الأستاذ محمود:
1/ الخطاب الأول:
مكتب التحريات الجنائية
36ه/م ت ج ص.ب 288
الخرطوم في 24/3/1946م
محمود محمد طه .. تاجر .. امدرمان
السيد المحترم: بموجب هذا مطلوب حضورك بمكتب التحريات الجنائية الساعة التاسعة يوم 25/3/1946م للإجابة علي أسئلة تتعلق بمنشورات يعتقد أنها صدرت عن الجمهوريين.. أرجوا التكرم بالتوقيع لاستلام هذا الخطاب..
المخلص ج.أ.س يرايس
ملاحظ مكتب التحريات الجنائية
2/ الخطاب الثاني:
( ورقة تكليف بالحضور للإدلاء بمعلومات تتعلق باحتمال الاخلال بالسلام) (انظرالمادتين 81 و84)..
إلي محمود محمد طه، مقاول أمدرمان
بما انه قد تبين لي بمعلومات موثوق بها أنك قد أصدرت منشوراً يعتقد أنه من المحتمل أن يثير الشعور بالكراهية ضد الحكومة، ويؤدي إلي الاخلال بالسلام أو إلي إزعاج الطمأنينة العامة.. فأنت بموجب هذا مطلوب حضورك شخصياً للمثول أمام محكمة الجنايات في يوم 2/6/1946م الثامنة صباحاً لتوقع علي كفالة مالية قيمتها خمسون جنيهاً، وأيضاً لتوقع علي كفالة بواسطة ضامن واحد بمبلغ خمسون جنيهاً علي ان تحفظ السلام وتمتنع لمدة سنتين عن القيام بالأعمال غير المشروعة والتي من المحتمل أن تخل بالطمأنينة العامة، أو تبين السبب الذي يمنعك عن التوقيع علي هذه الكفالة وهذا الضمان.. و.س.ماكدوالقاضي جنايات الخرطوم 29/5/1946م
يلاحظ في الخطابين أن الانجليز تعمدوا تجاهل مخاطبة الاستاذ محمود بوصفه رئيساً لحزب سياسي، وهو اتجاه لعدم الاعتراف بالاحزاب التي تخرج علي الخط المهادن للانجليز.. هذا وقد شغلت أنباء مواجهة الجمهوريين للانجليز صفحات الصحف في تلك الايام، وهذا نموذج:
(الرأي العام -3/6/1946م: مثل الأستاذ محمود محمد طه المهندس أمس أمام قاضي الجنايات المستر ماكدوال متهماً من بوليس الخرطوم تحت قانون التحقيق الجنائي لتوزيعه منشورات سياسية من شأنها الإخلال بالأمن العام، وقد أمره القاضي أن يوقع علي صك بكفالة شخصية بمبلغ خمسين جنيهاً لمدة عام لا يشتغل خلالها بالسياسة، ولا يوزع منشورات أو يودع السجن لمدة سنة إذا رفض ذلك .. ولكن الأستاذ محمود رفض التوقيع مفضلاً السجن، وقد اقتيد لتوه إلي سجن كوبر) انتهي..
في ذكري الاستقلال رقم 60(3-3)
كيف تمكن الأستاذ محمود من انتزاع حقوق السجين السياسي؟؟
د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
انتهينا فيما سبق من رصد إلى أن الأستاذ محمود رفض توقيع الكفالة والتوقف عن العمل بالسياسة، واقتيد لتوه إلى سجن كوبر.. وفي داخل السجن اشتعلت المواجهة مع الانجليز ، فقد حكي السيد نصر الدين السيد أحداث دخول الأستاذ محمود للسجن في اللحظات الأولي ، عندما التقي بوفد الجمهوريين المتحرك بالجنوب ، وقد علي انتخابات مجلس الشعب الأخير في نهايات مايو ، قال:
(اقتيد الاستاذ محمود إلي السجن بواسطة أثنين من الضباط السودانيين، وعندما وصلوا مكتب التسجيل أطلق الأستاذ يديه بقوة وانتزع دفتر التسجيل وضرب به وجه الضابط الانجليزي المسؤول!! ثم رفض القيام للضباط الانجليز على عينك يا تاجر!!، وعندما عاتبه أحد الضباط المصريين محتجاً علي عدم القيام له رد عليه الاستاذ: ( أنا لو كان بقيف للزيك البيجيبني هنا شنو!!)..
ويواصل السيد نصر الدين، الذي كان ضابطاً برتبة ملازم آنذاك:
(رفض الأستاذ محمود أن يلبس زي المساجين ، فكلف الانجليز أحد الضباط السودانيين بأن يلبسه إياه بالقوة، لكن الضابط قال للأستاذ محمود بعد أن وضح له المهمة المكلف بها، قال إنه لن ينفذها حتى لو يقلع الكاكي ويذهب إلي منزله!! فنظر إليه الاستاذ محمود ملياً ثم قال له: اذهب وقل لهم قال سيلبسه غداً بعد نهاية يوم العمل، وقال السيد نصر الدين : الغريب أن الانجليز فرحوا لهذا الرأي!!)..
قال الاستاذ محمود لطلاب الدراسات الافريقية حول هذه الاحداث:
عندما دخلت السجن قررت لابد من أن أحدث حاجة في داخل السجن، وهي المخالفة لتعاليم السجن، وقوانين السجن وأوامر السجن.. وضباط السجن كانوا اثنين من الانجليز قلت لهم : أنا ماعندي معاكم أنتو حاجه شخصية.. الحكومة ما بتعترف بالمسجون السياسي ، لكن دا سجن سياسي بطبيعة حاله، كونها ما بتعترف بيهو دا مابغيّر الحقيقة دى ، ويبقي حقكم تعرفوها وتحترموها.. إذا كان أنا مسجون سياسي وأنا بقول للحاكم العام أنت تخرج من البلد لا يمكن أن أطيع أوامركم وانتو موظفين صغار وإنجليز!! وفعلاً فهموها بالصورة دى فلمن يمروا أنا ما بقوم ليهم ودى كانت بتقتضي أن أعاقب بزنزانه.. في الزنزانة أنا بصوم ما يسمي بالصيام الصمدي عند الصوفية.. الجمهوريون في الخارج يرفعوا المسألة بأني مضرب عن الطعام لسوء المعاملة بالسجن) .. أنتهي
استمرت هذه المواجهة داخل السجن طيلة شهر يونيو ، ومما جاء في الصحف عن ذلك هذا البيان:
الرأي العام 26/6/1946م بيان رسمي من مكتب السكرتير الاداري عن رئيس الحزب الجمهوري:
( أظهرت بيانات في الصحف المحلية حديثاً بخصوص محمود محمد طه الذي هو الآن تحت الحراسة بالخرطوم بحري نتيجة لرفضه أن يمضي كفالة المحافظة علي الأمن .. وهذه البيانات قد احتوت علي معلومات غير دقيقة ، والحقائق كالآتي: لمدة يومين رفض محمود أن يشتغل وهذا يخالف قوانين السجن ، فلم يعمل له أي شئ في اليوم الأول، أما في المرة الثانية فقد حكم عليه بالبقاء ثلاثة أيام بالزنزانة والأكل الناشف .. ولو أنه رفض أيضاً إن يقف عند الكلام مع ضابط السجن فإن العقوبة التي نالها الآن لم تعط له لهذه المخالفة لنظام السجن ، وبهذه المناسبة يجب ان يعلم أن كل المساجين مهما كانت جنسياتهم يجب أن يقفوا إلي ضابط السجن إنجليزياً كان أو سودانياً) انتهي..
كان هناك اتصال بين الأستاذ محمود وأعضاء حزبه بالخارج للتنسيق في العمل داخل وخارج السجن وكان الأستاذ محمود يرفض أن يكون مجرماً كما أشار هو، ويعتبر نفسه سجين سياسي ويجب أن يعامل معاملة السياسيين ..
هذا نموذج للخطابات التي كان يتم تبادلها مع الجمهوريين بالخارج وكان ينقل هذه الخطابات بعض الضباط السودانيين الشرفاء الذين يقفون مع الوطنيين وهم في الخدمة:
(أخي أمين : تحية لك ولإخوانك وشوقاً وبعد.. فهذا الجواب اتجاه موفق ما في ذلك شك والله أسأل أن يسدد الخطأ والخطى.. إدارة السجن مضطربة جداً لتحركاتكم وأصبح الحكمدار يحاول التودد بكل سبيل.. معاملتهم لي فيها كثير من الحذر الشديد، وقد أخبرني أنه جاء في عمل شئ ينقذ الموقف لأني مصر علي ألا أقف لمدير الخرطوم وخلافه فسألني: أتعتقد أنك بوقوفك مع المساجين عند زيارة المدير تجعل من نفسك مجرماً معهم؟ فقلت: ذلك حق ولكنه ليس كل الحق.. فأني بوصفي رئيس حزب سياسي يناضل من أجل بلاده سيحط من الجهاد الوطني إن رضيت أن أقف لأي رجل إجلالاً له.. قال : ذلك معقول ، ثم فكر وقال: إنه يريد أن يجعل لي مقاماً خاصاً في السجن لأقيم فيه وذلك لئلا تسري الروح هذه في باقي المساجين.. فهم لا يرون أن يعترفوا للمسجون السياسي بأي حق.. إن الحكومة الآن تقبض علي الجمر وتود بكل سبيل أن لو أمضي لها التعهد لتخرج من الحرج ببقية الكرامة لأنها تشعر أن ما ارتكبت من خطأ سيحيي الجهاد الوطني ويضعفها هي في نظر المجاهدين.. ومن المحقق أن الحكومة لا تريد أن تعترف بمكانة للسياسي السوداني، ولا للأحزاب السودانية.. وفرصة وجودي هنا ستخدم هذه النقطة بالذات خدمة لا حد لها، إذا استغل استغلالاً حسناً.. فأنا سأضغط علي إدارة السجن، فلا أقبل أي معاملة أقل من معاملة المسجون السياسي، وأن أقيم في مكان مميز وأن توفر لي وسائل الراحة والقراءة والكتابة، وألا ألبس ملابس السجن وألا أقيد إلا في الحدود التي تكفل للحكومة عدم نشر آرائي السياسية مثلاً، وان أحترم من رجال البوليس والإدارة في كل هذه الحدود.. وهذه أشياء تؤذي الحكومة أبلغ الإيذاء.. فأري أن تطالبوا أنتم بها في الخارج ، وبعدها تطالبوا بإطلاق سراحي.. فإنه من غير المعقول أن تطلق الحكومة يدها في أعدائها كيف تري؟ وحيث ترى.. ذلك بأن رجال السياسة السودانيين هم عتاد البلاد ومسلكهم أعداء للحكومة وحرب عليها.. ويمكنكم أن تحتجوا أكثر من هذا بأن تذكروا بأن الحكومة تستعين علي أعدائها رجال السياسة الوطنية بالجراثيم.. فإنها قد أدخلتني في زنزانة يسكن فيها مرضي السل، وكان بالقرب مني مريضان في الطور الأخير من المرض وقد منعت الماء في ليلة، فاضطررت لأخذ ماء الوضوء منهم ومن أزيارهم .. وقد كانا يحضران ويتحدثان معي جزءاً من الوقت ، ويقفان عند باب الاودة بكل حسن نية وهما طليقان يقفان في كل مكان بالحوش من غير مراقبة مثلاً .. كل هذه أشياء تستطيعون أن تكبروها وتهللوا بها وتوجهوها إلي صدر الحكومة.. وستطلق سراحي يوم أصبح متعباً لهم في الداخل وأنتم في الخارج.. وإني بعون الله وتوفيقه لن أمكث طويلاً هنا، ولكني سوف أخرج يوم أخرج والنضال الوطني مركز جداً بفضل مجهودكم في الخارج ومجهودي في الداخل) أنتهي …. من مذكرات أمين محمد صديق ..
من وحي هذا الصراع أستشار الحاكم العام السيد الدرديري محمد عثمان الذي كان زميلاً للأستاذ محمود بكلية غردون ، فقال له الدرديري أنه يعرف الأستاذ محمود منذ الصبا فهو لا يتنازل عن رأي يراه الحق حتي لو أدي ذلك إلي موته .. فأصدر الحاكم العام قراراً بإطلاق سراح الأستاذ محمود دون قيد أو شرط بعد خمسين يوماً فقط فلم يكمل العام المقرر في الحكم الأساسي .. وذلك بسبب الأثر الذي تركته المواجهة داخل وخارج السجن .. نشر الخبر في الصحف فانهالت البرقيات والرسائل علي مكتب الحزب الجمهوري بالتهنئة لهذا النضال المشرف للسودانيين ، وإليك نماذج من تلك البرقيات:
* سكرتير الحزب الجمهوري – أمدرمان
كان سجن الرئيس درساً قيماً لشباب الجيل في الايمان والروح وقد سررنا لخروجه لا شفقة عليه ولكن ليواصل الجهاد الوطني..
حسن بابكر القضارف 24/7/1946م
محمود محمد طه – الحزب الجمهوري – أمدرمان
تأكل النار الصدأ واللمما وبها يسمو كريم الذهب
ويرى الحر العذاب المؤلما لذة في الحق ياللعجب
ياسجيناً قدره قد عظما وسما حتى جثا في السحب
أحمد محمد عثمان – عطبره 29/7/1946م
* الاستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري – أمدرمان
أعضاء جبهة المؤتمر الوطني بالابيض يرون في خروجك من السجن آية واضحة للإيمان بالوطنية الصادقة ويعدون جهادكم رمزاً للكرامة السودانية، فبقلوب مفعمة بالغبطة يشاركون اخوانهم الجمهوريين السرور بعودتكم لميدان الجهاد.
السكرتارية 24/7/1946م
* أمين صديق ، البوستة الخرطوم للرئيس
دخلته رجلاً وغادرته بطلاً وضربته مثلاً
علي عبدالرحمن – الابيض 27/7/1946م
* سكرتير الحزب الجمهوري – الخرطوم
إن جميع اعضاء الجبهة الوطنية بسنجة مستبشرون بالإفراج عن رئيس حزبكم العظيم وهم جميعاً يبتهلون إلي الله أن يسدد خطاكم ويتمنون للرئيس العافية وحسن الجهاد..
سكرتير عام الجبهة الوطنية- سنجة 2/8/1946م
* محمود محمد طه أمدرمان
عرفنا فيك المثل الأعلي منذ عهد الطلب، فسرنا أن يعرف القاصي والداني هذا القلب الكبير.
صديق الشيخ – كوستي 30/7/1946م
*محمود محمد طه – أمدرمان
اوفيت كرامة السودان وإبائه حقهما – فتلعش رمزاً صادقاً للوطنية الخالصة- لك تقديرنا واعجابنا.
أتحاد طلبة كردفان- الابيض 23/7/1946م
* محمود محمد طه – أمدرمان
لقد سجلت بعزمك القوى وإيمانك الصادق فخراً للأجيال فالتعش مرفوع الرأس – لك مني التهاني.
الطيب حسن / عطبره 24/7/1946م
لم يتوقف الصراع مع الانجليز بنهاية هذا السجن الأول ، فقد ذهب الأستاذ محمود إلي رفاعة بعد إطلاق سراحه ، في أغسطس 1946م ، وقاد ثورة رفاعة ضد الانجليز عندما اعتقلوا امرأة خفضت بنتها بموجب قانون منع الخفاض .. وثار الجمهور خلفه إلي سجن الحصاحيصا وأخرج المرأة بالقوة .. ونتيجة لهذا حكم عليه مرة أخرى بالسجن لعامين كاملين قضاهما بين مدني وكوبر ، وسار نفس السيرة فأضطر الانجليز إلي وضعه في (غرفة خاصة) تفادياً للحرج الذي يحدثه بمواجهته الصارمة، فكان هذا الوضع هو النواة التي بني عليها وأسس حق السجن السياسي السودانيين..
وبهذا النضال، كان الأستاذ محمود أول سجين سياسي في الحركة الوطنية بعد مؤتمر الخريجين، وهو كما رأينا قد انتزع هذا الحق انتزاعا بقوة عزيمته وإصراره على الحق مهما كلفه من ثمن..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.