كان لدي صديق عزيز من رجالات سنار وهو أصلاً من القطينة، المرحوم بإذنه تعالى معاوية عبد الواحد الخليفة الحسن الذى توفى قبل بضع سنوات أثناء فترة عصيبة مر بها على يد حكومة الإنقاذ، تخللتها مطالبات ومطاردات لئيمة من مندوبى الضرائب والمصارف، وذلك بعد أن لفظته وانقلبت عليه الجهات التى كانت قد استقطبته للمؤتمر الوطني، ثم حكمت بأنه قد احترق واستنفد أغراضه بالنسبة لها؛ وكان المرحوم قد هجر حزب الأمة بعد أن كان أحد أقطابه فى سنار على الرغم من خلفيته الختمية، إذ كان أبوه وجده وعمه جعفر وعمه الطيب عليهم رحمات الله من كبار الخلفاء والاتحاديين بالقطينة وجبل مويه وسنار. ولقد التقيته فى مطلع التسعينات وسألته عن ذلك التحول غير المتوقع، فقال لي: (ياخي إنتو بتقولوا لينا الجماعة ديل ما حيقعدوا فى السلطة لأكتر من ستة شهور، والآن ليهم ست سنوات وأظنهم حيقعدوا ستاشر سنة؛ أنا صاحبي عنده فشل كلوى منذ 15 سنة وياهو داك أنصح من الحديد. بالله إنت وصاحبك عمر نور الدايم شوفو ليكم غراب جزوه.) عليهم رحمة الله جميعهم. وظل أولادي وبناتي كذلك يتساءلون: (ألم تقل يا أبتاه إن هذه آخر سنة لنظام الإنقاذ؟). بيد أني ما زلت أصر على أن الصمود فى وجه نظام الإخوان المسلمين بثبات هو الطريق الأوحدوالأصوب؛ فلو "انكسرت" لهم وألقيت أسلحتك وطفقت تبحث عن رزق حلال بين ظهرانيهم فى بلادك، لن تجد سوى المضايقات والمماحكات والتكميم والمحاربة، إلا إذا كنت من طينتهم وعقيدتهم السياسية؛ ولو حاولت أن تتلون وتتماهى معهم تقيةً واتقاءً لشرورهم فسوف تلقى مصير صديقي المرحوم، ومصير العديدين الذين لا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا. فهذا نظام فاشستي فظ مؤسس على المفاهيم والممارسات الأمنية، ومن أهمها الشك حتى فى أقرب الأقربين، وفى كثير من الحالات يتحول ذلك التشكك الوسواسي إلى بارانويا باثولوجية، بل إلى انفصام شخصية متسربل بكاريزمية السلطان- مثل ذلك الذى أصاب كلاً من القذافي وعيدي أمين وجان بيديل بوكاسا وموبوتو سي سي سوكو فى أواخر أيامهم. والسبب الآخر لمواصلة النضال ضد هذا النظام المستبد هو أن الظروف الموضوعية بالبلد والبنيات والهياكل والقوانين ما زالت كما هي منذ ست وعشرين سنة، وما زالت السلطة فى يد نفس العصبة، ومهما تغيرت مسميات التنظيم الحاكم فإن قاعه الصخري ما زال هو الحاكم الفعلي للبلاد، متمثلاً فى بضع كوادر إخوانية عتيقة: د. إبراهيم أحمد عمر، د. نافع، على عثمان، مصطفى عثمان، عوض الجاز، أحمد إبراهيم الطاهر، أحمد عبد الرحمن، الفريق بكري، الفريق عبد الرحيم – كجنود النحل، أما الملكة القابعة فى جوف الخلية فهي البشير وزوجاته وإخوانه. وليست لهذه العصبة إيديولوجية محددة وثابتة أو نظرية اقتصادية موسومة تهتدى بها، ولكنها تقفز من فنن إلى فنن ومن منبر إلى منبر ومن مدرسة إلى مدرسة، يحدوها هدف واحد: البقاء فى السلطة إلى أبد الأبدين لو أمكن. وهنالك آليات مجربة لتحقيق هذه الاستراتيجية، ظلت مستخدمة طوال ربع القرن المنصرم، وهي:- ما هو المخرج؟ لقد ابتدع نظام البشير حيلة جديدة لإطالة عمره وكسب أراضٍ لدى القوى الأساسية بالمنطقة: مصر والعربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وذلك بادعائه التخلى عن فكر الإخوان المسلمين وعن حلفه مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل صار ملكياً أكثر من الملك وقطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران تضامناً مع السعودية بسبب ما حدث لسفارتها بطهران. ولا أدرى ماذا سيفعل هذا النظام إذا عادت المياه إلى مجاريها بين هذين البلدين الكبيرين، خاصة بعد أن دخل الغرب على الخط وشرع في الاستثمارات الضخمة بإيران (حتى تعود المليارات التي كانت مجمدة وأطلق سراحها، حتى تعود لمستقرها بالبنوك الغربية حيث كانت)، على إثر العقود الهائلة ذات الأرقام الفلكية التي تم إبرامها مع الحكومة الإيرانية في الأيام القليلة الماضية. وبقدرما يرضى الغرب عن إيران، بقدر ما سوف تتصرف بمعقولية واعتدال يناسب هذا الدور الجديد؛ وبالتالي فإن الصورة برمتها في الشرق الأوسط خاضعة لتعديل ما، وربما ينجم عن ذلك ردم للهوة بين إيران وجيرانها العربيات النفطيات، خاصة بعد الزيادة الخيالية التي سوف يشهدها انتاج النفط الإيراني؛ فلا أقل من أن تتصالح الدول النفطية الشرق أوسطية حتى تتعاون أكثر داخل منظمة أوبك، وحتى ترعى مصالحها الدولية بصورة أكثر اتساقاً وحكمة وتوحداً إزاء الدول الغربية وغيرها من الزبائن المشترية للنفط والغاز. ومن ناحية أخرى، فلقد ثابرت العديد من المنابر والأقلام في تذكير دول المحور المعادي للإخوان المسلمين بأن نظام البشير ليس بالبراءة التي يدّعيها، فهو على أحسن الفروض طابور خامس سينقل خبرهم للأعداء، وهو على كل حال يسوم نفسه على الدوام لمن يدفع أكثر؛ كما كشف النظام عن نواياه بسرعة فاقت التصور، فما كاد يرسل قواته المشاركة في عاصفة الحزم ( وهي مغامرة تهدف من جانبه لإلهاء الجيش السوداني عن أي تفكير في انقلاب عسكري بالخرطوم، و تضمن لحفنة من الضباط والجنود رواتب مجزية تكلفت بها الدول الصديقة، وعتاداً وأزياء جديدة، والتعامل بآليات وأسلحة حديثة، كأنهم في فترة تدريبية خارج البلاد )، ما كادت هذه القوة تأخذ مكانها بالأراضي اليمنية حتى خفّ القادة السودانيون للعواصم المعنية بحرب اليمن لاستلام الدفعيات (البيزات)، كأنهم يبيعون الماء في حارة السقايين، إذ أن هذه الدول تعرف جيداً كيف ينهب القادة السودانيون مقدرات بلادهم و يحولونها إلى قصور وشقق وحسابات بالمصارف البعيدة عن متناول باقي الشعب المستغيث. وأذكر أنني التقيت مديراً لمركز بحوث بدبي قبل عامين وسألني: (كيف تصرّون على أن هذا النظام إخواني بينما هو ينفي عن نفسه هذه التهمة ليل نهار، وبالقنوات الرسمية وغير الرسمية؟ فقد تحدثت إلى السفير أحمد يوسف محمد الذى قال لي:"نعم كنا إخوان مسلمين، ولكن المفاصلة التي حدثت عام 1999 كان فحواها أن الإخوان المسلمين غادروا السلطة مع رئيسهم حسن الترابي، وما بقي من كوادر بالمؤتمر الوطني هم العلمانيون المعادون للإخوان المسلمين"). فقلت له إن هذه فرية، وشرحت له بعض الأمثلة السودانية (من نوع "إذا تابت صانعة خمر العرقي وتركت بيعه، فإنها سوف تصفّي المريسة")، وغير ذلك مما لايليق ذكره هاهنا ولكنه لا يخفى على فطنة القارئ. وحدثته عن القوانين القمعية والممارسات الجائرة في حق المعارضة (العلمانية) والوجود الإخواني الراسخ بدولاب الدولة والمؤسسات والمصارف والمنظمات المسموح لها بالعمل والجامعات والأجهزة الإعلامية. إن الإخوان المسلمين ليسوا فقط ذلك العدد الضئيل من الكوادر التي خرجت مع الترابي وأسست حزب "المؤتمر الشعبي"؛ هذا مجرد رأس جبل الجليد الذي يغوص باقية في تلافيف الدولة منذ أيام التمكين الأولى عندما سطا هذا التنظيم على السلطة عام 1989م. فقال لي ذلك الأستاذ:(نحن نعرف كل ذلك، وهم لا ينطلون على أحد، ولكني أردت أن أشهدك على مدى استخفافهم بعقول الآخرين، وعلى محاولاتهم الدؤوبة لتسويق أكاذيبهم للأصدقاء والأعداء بكل سذاجة.) عموماً، لقد انهارت كل الأقنعة التي يتستر خلفها نظام الخرطوم، وليس أمامه إلا أن يخرج بمليشياته للطرقات ليحصب شباب السودان المعارض بالرصاص الحي shoot to kill، ويدمر البلاد كما ظل بشار الأسد يفعل بوطنه منذ خمس سنين؛ أو يذهب عن طريق انقلاب عسكري أو تدخل مسلح مثل محاولة الدكتور خليل ابراهيم وحركة العدل والمساواة التي كادت أن تنجح في مايو 2008م؛ أو يتبنّى النظام خطاً واضحاً وجاداً للحوار مع المعارضة، كما فعل دهاقنة الأبارثايد بجنوب افريقيا مع حزب المؤتمر الإفريقي بقيادة نيسلون مانديلا في مطلع التسعينات، إلى أن توصّلوا لإنتخابات 1994 التي جاءت بالزعيم مانديلا رئيساً لجنوب إفريقيا السوداء والبيضاء. آخر الكلم: ولكن، ليس هنالك في الأفق ما يشير لتزحزح النظام عن قناعاته التي ظل متشبثاً بها لست وعشرين سنة؛ وكل ما أوردناه عن إمكانية الحوار مع المعارضة قد يكون مجرد أحلام يقظة و wishful thinking. فليس هناك ما يحفز العصبة الحاكمة على التنازل عن امتيازاتها وتعريض ثرواتها للخطر بعد أن راكمتها عبر السنين، وليس في تاريخ البشرية سابقة لطبقة إقطاعية أو برجوازية تنازلت عن نعمائها طائعة مختارة، إنما تم ذلك على الدوام عن طريق الثورات السلمية أو الدموية أو الإثنين معاً. وحتى المثل الذي ضربناه عن التحول السلمي في جنوب إفريقيا، كان في الواقع تكليلاً لنضال سلمي ومسلح دام لأكثر من ثلاثين عاماً؛ ولقد اتخذ الكفاح ضد نظام الأبارثايد عدة أوجه:- وعلى هذا المنوال؛ فإن عناد حكومة البشير وإصرارها على التشبث بالسلطة، مع المراوغة والتمويه والكذب في تعاملها مع المعارضة، يجب أن يقابله سلاح واحد، وهو وحدة الهدف ووحدة الصف بالنسبة لقوى المعارضة، والتأسّى بالنماذج الرائدة الناجحة مثل ثورة السود في جنوب إفريقيا، واستبطان تكتيكاتها الذكية التي مكنتها من القضاء على أقوى دولة على نطاق القارة الإفريقية. يجب أن تتحول الهياكل الحالية مثل قوى التحالف ونداء السودان والجبهة الثورية إلى تحالف شبيه بالمؤتمر الإفريقي الذي كان يضم الشيوعيين والوطنيين وكافة المعارضين لنظام الأبارثايد تحت راية واحدة: وهي الكفاح ضد دولة الفصل العنصري والمطالبة بالصوت الواحد لكل مواطن، أبيضاً كان أم أسود: ONE MAN ONE VOTE ، إلى أن فككوا ذلك النظام البغيض وأقاموا دولة المواطنة والديموقراطية الحقيقية. وبمثل هذه الوحدة تستطيع المعارضة السودانية أن تضع نهاية لنظام البشير في زمن قياسي. وعلى كل حال، لا مفر من الصمود أمام هذا النظام المشوه حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، ذاكرين البيت المنقوش على شاهد ضريح صديقي المرحوم الباشمهندس حسن بابكر الحاج بمقابر الشيخ فرح ود تكتوك بشرق سنار: قف دون رأيك فى الحياة مجاهداً إن الحياة عقيدة وجهاد وما قال أبو الطيب: غير أن الفتى يلاقى المنايا كالحات ولا يلاقى الهوانا وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا والسلام.