ابتسامات البرهان والمبعوث الروسي .. ما القصة؟    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    مشاد ترحب بموافقة مجلس الأمن على مناقشة عدوان الإمارات وحلفائها على السودان    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن تسليم الدفعة الثانية من الأجهزة الطبية    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكري لرحيله : الامام المهدي .. كاريزما القلم في صناعة الثورة
نشر في حريات يوم 16 - 06 - 2016

تميزت حركات التحرر الوطني وهبات التغيير التي صنعها الإنسان بارتباط أزلي مع الكلمة المكتوبة والتي مثلت دوما عود الثقاب الذي تحتاج وهجه صدور الشعوب حينما يتغشاها الظلم والعسف ويتهددها الغزو الفكري والثقافي بشتى صنوفه. لقد لقيت الكلمة المكتوبة عند الامام محمد احمد المهدي مفجر الثورة المهدية احتفاءاً متميزاً سما بمقاصدها وارتفع بمعانيها فأجاد توظيفها لتنظيم شعبه وتوحيده حول راية موحدة لمجابهة الاستعمار. لم تقتصر ادبيات المهدية المنقولة علي معاني الثورة كعمل جماهيري منظم بل تعدتها لتؤسس لمبادئ اجتماعية و فكرية شكلت مانفستو للتغيير.
من هذا المنحى يسهل الولوج للحديث بقدر أكثر تفصيلا من كتابات المهدي والتي اكسبها الكاتب بأسلوبه المتجدد شكلاً خرج عن ما ألفه الناس من مضمون يتماهى مع البناء النمطي لكتاب عصره. لقد كتب الكثير من المؤرخين عن كاريزما القيادة السياسية والعسكرية عند المهدي ولكن القليل منهم تعرض لمحمد احمد المهدي "الكاتب" الذي ألهبت كلماته حماس شعبه واستنهضته من ثري الخنوع الي ثريا الأمل .. ذلك امر اقره ونستون تشرتشل رئيس بريطانيا الأسبق حينما قال: " لم يماثل البؤس و الشقاء الذي رزح تحت السودانيون – إبان الحكم التركي- سوءاً الا معنوياتهم المنخفضة حينها .. ببساطة لم يكن احد ليجرؤ علي رفع السلاح علي المستوي العملي لولا مجيء المهدي الذي وحد القبائل و نفخ فيهم روح الحماسة التي طالما افتقدوها " ..( تشرتشل : حرب النهر) . وفي ذات المعني يقول المؤرخ الوطني الدكتور ابوسليم عن المهدي " الكاتب " .. : " لقد أوتي المهدي ذهناً وقاداً ومقدرة عالية علي الكتابة وعندما قام بحركته استمد من هذا المعين الفياض واستغل ما وهبه الله له من ملكة القيادة والبصيرة النيرة فخرج عن إطار مجتمعه وسياج عصره وسما بأسلوبه وقد بز اقرانه وفاق عليهم وأصبح صوته الأعلى اذا خطب وقلمه الأقوى اذا كتب وحكمه الأرجح اذا نظر فهو بغير شك امام كتاب عصره في السودان " .. ويستطرد ابوسليم في حديثه عن المهدي الكاتب: " لست أري في تاريخ السودان من كان له هذا التأثير البالغ في تاريخ الثقافة والفكر في السودان " .. ( ابوسليم : الحركة الفكرية في المهدية ).. وقد وافق ابوسليم في هذا الشأن ايضا مسئول مخابرات الحملة البريطانية لاحتلال السودان السير ريجنالد ونجت والذي كلفته الحكومة البريطانية بحكم معرفته باللغة العربية بدراسة منشورات وكتابات محمد احمد المهدي لبناء دعاية حربية مضادة تسهل من مهمتهم في كسر شوكة الدولة المهدية .. فخلص ونجت فيما خلص اليه: " لا شك ان هذا الرجل (اي المهدي) كان يمتلك أقوي فكر و أصفي رؤية ذهنية يمكن ان يتمتع بها إنسان في هذا البلد الذي تشتمل مساحته علي مليوني كيلومتر مربع " ..( ونجت: المهدية والسودان الانجليزي المصري ) .
اما الأديب والمفكر المصري الدكتور حسين مؤنس فقد مضي بتقييمه لما قرأ لأبعد مما ذهب اليه ونجت حينما وضع المهدي في الصف الاول من كتاب اللغة العربية بأواخر القرن التاسع عشر بل ذكر انه كان يتميز علي كتاب عصره في العالم العربي بحس ادبي واضح.. ( حوليات كلية آداب أبراهيم باشا ، المجلد الثاني ، العدد الثاني ، ص144).
لعل من نافلة القول الحديث عن ان الخلفية الثقافية والفكرية لأي كاتب هي التي تعبر تعبيرا مباشرا عن تدرجه في مراقي المعرفة والوعي. في هذا الإطار يقول المؤرخ البريطاني فيرغس نكول صاحب " مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون " .. واصفاً الحصيلة المعرفية للمهدي: " عندما بلغ السابعة عشر من عمره كان قد اطلع تماماً على كل العلوم المعرفية الاسلامية التقليدية. فبجانب القرآن الكريم الذي كان أساسا مهما لذخيرته المعرفية فقد درس الفقه وفلسفة الشريعة الاسلامية. لقد اشتمل تعليمه علي علم التفسير والحديث كما اجاد اللغة العربية وأتقن قواعدها النحوية وامتدت معارفه لتشمل علوم الرياضيات والفلك " ويستطرد نكول ليصف نهم الفتي للاطلاع والمعرفة قائلا: " كان التلميذ اليافع يلتهم المؤلفات والمخطوطات المتاحة له التهاماً. بل انه نقل عدد منها – مما جاد بها عليه أساتذته- بخط يده . تلك كانت اعمال لكتاب معروفين مختلفين في زمانه أسهمت كثيرا في تشكيل الوعي السياسي والديني لديه ".. ثم يمضي نكول ليسرد اعلام الفكر الاسلامي الذين اطلع المهدي علي مؤلفاتهم عن ظهر قلب ومنهم الشيخ محي الدين بن عربي، الشيخ احمد بن ادريس وشيخ الاسلام احمد بن تيمية. وفي ذات المنحى يقول المفكر المصري الدكتور عبدالودود شلبي: " قبل ان يبلغ العشرين اصاب المهدي في تلك الفترة اكثر مما اصاب زملاؤه علما وتثقيفًا . لقد ادرك محمد احمد في تلك السن المبكرة اكثر من ما أدركه لداته فقد حفظ القرآن الكريم وجوده ولم يفته النحو والصرف والفقه والتفسير والتصوف واولع بالأدب والعلوم العقلية فدرس الفلسفة والعلوم الطبيعية والمنطق واقبل علي التفسير فقرأ فيه قدرا كبيرا ووجد بخطه علي ظهر نسخة من كتاب تفسير (الجلالين) ما يفهم منه انه قرأه اكثر من سبعة واربعين مرة علي مشائخ كثيرين. لقد عرف المهدي الغزالي و ابن رشد و ابن سينا وغيرهم من فلاسفة المسلمين واحتقب معه كتاب احياء علوم الدين يعاود النظر والتأمل فيه وكان اذا حدثته في العلوم النقلية تسمع من أساليبه الوجيزة والمفيدة ما يدعوك الي نظمه في عقد من اشتهروا بالبراعة في هذا الفن " .. (د. عبدالودود شلبي: الاصول الفكرية لحركة المهدي السوداني و دعوته ) .
اذن نحن امام كاتب امتلك ما يكفي من أدوات المعرفة بمقاييس زمانه وامتزج كل ذلك مع طبيعة الظروف المفصلية المحيطة بالسودان و التي اكتنفت صعوده وتقدمه لواجهة الأحداث . فساح بجسده و روحه جل بقاع البلاد وخرج علينا بنفثات يراعٍ قُدِّر له ان تنفذ كلماته لقلوب السودانيين وتخاطب همومهم في رد مظالم المستعمر والانتصار لوجدانهم الجمعي بأسلوبه الخاص. فالقلم والفكرة توأمان يخرجان من رحم ظروفهما الزمانية والمكانية وينتميان بالبنوة الشرعية لهما .
وحينما نعمل عدسة النقد في أساليب الكتابة باللغة العربية في عصر المهدي نجد ان الجمود و نهج التقليد هما السمتان الغالبتان لكتابات ذلك الزمان .. بينما وسم المهدي اُسلوبه في الكتابة بميسم التجديد في الشكل والمضمون. ففي مراسلاته الخاصة مع كبار الأمراء نجد انه يميل لتأسيس وتمتين الصِّلة النفسية بينه وبين قادته فبعد ديباجة حمد الله و الصلاة والسلام علي رسول الله التقليدية التي عادة ما يبدأ بها المهدي رسائله .. يدلف مباشرة للتحية الحارة عن طريق تبيان مكانة المُخاطب عنده فيبادئه بذكر اسمه كاملاً مسبوقاً بلقب الحبيب او المكرم او الصفيّ ثم يعقب ذلك بالإطراء عليه والدعاء له بالخير .. بينما يذكر اسمه هو -اي المهدي- مصحوباً بلقب الفقير الي الله او المفتقر الي ربه تواضعا بنفسه امام قارئه مما يوحي للقارئ بعظم مكانة المُخاطب عنده وذلك علي نحو .. " الحمدلله الوالي الكريم والصلاة علي سيدنا محمد وآله مع التسليم و بعد فمن العبد الفقير الي ربه محمد المهدي بن عبدالله الي حبيبه وراحة باله وصفيه في الله احمد ود سليمان وقاني الله وإياه وحفظنا من كل ما لا يرضيه الي يوم ملقاه " .. ولا شك ان هذه المقدمة المتكررة في رسائل المهدي تؤسس لعلاقة ود خاصة بين الكاتب والمتلقي. ويكمن التجديد بين ثنايا ما سبق بالاستفاضة في خلق مساحة من القبول النفسي بين الكاتب ومتلقيه علي عكس أدب الرسائل السائد آنذاك والذي تميز باختزال تلك المقدمة بكلمات قصار لا ترتقي بها الي الأثر الحميمي الذي تصنعه كلمات المهدي بالمتلقي. وفي ذلك من التجديد ما يكفي لكسر الجمود والرتابة التي عادة ما كانت تكتنف النمط السردي الممل الذي تاه فيه بناء المحتوي الكتابي لرسائل ذلك الزمان. وفي هذا الشأن تحديداً يقول ابوسليم : " تتميز خطبه و رسائله بكثرة الأسئلة والتعجب والسجع ومقابلة الجمل والأفكار و اللعب بالموسيقي اللفظية والتعاطف المباشر مع المستمع بتوجيه الخطاب اليه و مخاطبته دائماً بألفاظ النداء" .. ( ابوسليم : الحركة الفكرية في المهدية ، مصدر سابق ).
اما عن محتوي كتابات المهدي فنجد انه يتباين بناءاً علي تباين ثقافة القارئ او المتلقي و الغرض الذي كتب من اجله المنشور . فنجده مثلاً يجنح الي التبسيط و المباشرة بالمنشورات الموجهة لمخاطبة العامة- ولو كانت عبر الأمراء- ويضرب الأمثال المبسطة وفي سبيل ذلك قد يتغاضى عمداً عن التركيب النحوي وقد يجنح لخلط العامية بالفصحي لإيصال المعني للمتلقي وبالأخص حينما يندرج ذلك في إطار وقوفه علي رد المظالم بنفسه ومن ذلك منشوره لأحمد ود سليمان بخصوص رد مظلمة أمراءة تظلمت لديه :
" حبيبي ان العرض الذي تقدم الي الحرمة النور بنت يوسف والدة حسن محمد ابراهيم وبه تذكر ان جميع ما بيدها أُخذ منها سوي بهائم ضان ( فاضلة) معها الأن أخذت علي يدي عبدالقادر البشير المندوب لخدمة الغنائم بالجهة وأرسلها لبيت المال . وقد ترجت إعطاء البهائم الستة المذكورة لها . فمن حيث أن حقوقها قد أُخذت فقد أجبتها لما طلبت بإعطاء (الستة ضانات ) للطف بها وتأليفاً لها . فبوصولها لديكم فأن وُجدت البهائم في بيت المال فسلموها لها بذاتها وان كان سبق المبيع فأعطها الثمن والسلام " .. ( ابوسليم : الاثار الكاملة للأمام المهدي ).. فالمهدي هنا يستخدم كلمات عامية شائعة لتتوسط سياق المعني الذي يريد إيصاله بانسياب تراتيبي مقبول و هذا هو ما عبر عنه الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي في سفره القيم الذي كتبه مع صديقه الاستاذ محمد علي جادين بعنوان ( الثورة المهدية ، مشروع رؤية جديدة) حين تحدث عن : " قدرة المهدي علي استقطاب الدعم الجماهيري من خلال التعبير بالقول والفعل عن الوجدان الشعبي لمتطلباته المحددة في مرحلة تاريخية معينة وفي هذا الخصوص فإن التساؤل عما اذا كان محمد احمد المهدي يتعمد الحفاظ علي تلك الخاصية بتبسيط أفكاره والاغتراف من معين التقليدية السائدة كما هي ، يظل مفتوحا .. ففي حقيقة تراوح اسلوب الكتابة عند المهدي بين الدارجة والفصاحة النقية مما يوحي بأنه كان يتعمد مرونة الطرح حتي من حيث المحتوي تمشيا مع ادراكه لضرورة مراعاة ما يستطيع الذهن الشعبي والحس الاجتماعي والديني السائد استيعابه وقبوله او لا يستطيع " (الصاوي وجادين : الثورة المهدية مشروع رؤية جديدة).
وبذات الأسلوب المباشر الذي عادة ما يكون سمة كتابات المهدي حين يتعلق الامر بإصدار الأوامر الإدارية لرد المظالم كتب الي محمد ود سليمان مساعد امين بيت المال:" حبيبي، ان اخت عبدالقادر ولد محمد حاج سلمان قد قلنا ان حقها يحفظ ببيت المال للأيتام، فانظروا فيه مع الاخوان ان كان لهم وارث مستحق فأعطوه إرثه. والبهائم اجلبوها الي محل فيه رعية عند امين بمعرفتكم. و قنّنوا للأولاد كفايتهم من بيت المال واعطوهم في الحال ما يزيلون به ضرورتهم وسيوف الأولاد أعطوها لهم، هذا والسلام ".. ( ابوسليم : مصدر سابق).
وفي نفس المنحى يذكر في احد منشوراته الموجهة للعامة من الناس ..
" احبابي، سألتكم بالله العظيم ونبيه الكريم من كانت له مظلمة والحال أني ناسي فليطلبني بها قبل الآخرة فأني قد اتهمت نفسي بذلك. ومن كانت له مظلمة علي الخلفاء والامراء فليطلب ذلك فلا يؤخر ذلك الي الآخرة حتي لا نتأخر في الآخرة عن الله بحسن اللقاء.. والسلام " ذلك كان اهم منشوراته في رد المظالم والذي كتب بعد تحرير الأبيض 1883 وهو هنا نراه كما فعل في المنشورات ذات السياق المماثل أعلاه يلجأ للتبسيط الذي يمهد لإيصال المعلومة للمتلقي بلا تعقيد، فهو كما نري يتحدث عن ما يريد مباشرة و دون مقدمات مطولة و بوضوح لا يترك للقارئ اي مجال للالتباس بمقصده. ثم يلي هذا المنشور منشور اخر في ذات الصدد للأمير الشيخ محمد البدوي ابو صفية يرتفع فيه المهدي بكلماته لغةً وسلاسةً ويستخدم فيه مقدراته القلمية علي المقابسة وتزيين الكلام وتسجيعه بما يوافق مقدرات المتلقي الذي تسمق خلفيته المعرفية بما يتناسب مع تلك الكلمات وهو كعادته في هذا المقام يستخدم مقدمة تمهيدية بلا اطالة مملة قبل ان يخلص الي الغرض من رسالته ليكسب المعني المنقول مزيدا التماسك البياني والقدرة علي التأثير. وقد جاء في ذلك المنشور بعد ديباجة حمد الله والصلاة علي النبي المعتادة :
" وبعد فمن عبد ربه محمد المهدي الي حبيبه ذي القرب الروحي . حبيبي، ان ما ذكرته أني خفت علي نفسي وعلي احبابي من الحبس عند الله للمسألة والمعاتبة، و ذلك اصعب ما يكون ! فألي من يلتفت من يوبخه ويعاتبه خالقه الذي لا ولي له سواه؟ وكيف حاله اذا قال له يا عبد السوء اما قلت لك؟ اما امرتك؟ أين الجواب؟ والعبد مزحوم بالحر والحسرة والرب عظيمٌ مهاب. ومن المعلوم ان الناس ان كانت لهم مظلمة مني او من خواصي يستحون ويخافون . وقد حصل الزجر من ذلك اكيدا. وقد تفكرت فيما وقع في صدري من ذلك الخوف فوجدت ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قد فعل ذلك. ووجدت ان هذا الامر فيه أسوة به ونصيحة للنفس وخلوصا للرب سبحانه وتعالي " ثم يستشهد بقصة النبي (ص) مع عكاشة رضي الله عنه وموقف الصحابة معه و يوضح ضرورة التأسي بالنبي (ص) الي ان يقول: " فعلي ذلك لازم ان هذا المنشور الذي بيد الشيخ محمد البدوي يكتب علي الحيطان والأسواق، لنخلص مع احبابنا قبل يوم التلاق. فمن الدنيا الآخرة ولا آخرة الا بما حصل في الدنيا، وهي لا نصيب فيها، إنما النصيب نصيب الاخرة. وفقنا الله واياكم الي الصواب بلزوم السنة والكتاب واتباع النبي الآواب الي ان نخلص مع الأحباب، والسلام " .. وكما نري هنا فقد يميل المهدي لتوظيف عدداً من الجمل الاعتراضية ليضفي علي كلماته ما يريد من كمال المعني واتساق المتن ويري الدكتور ابوسليم ان تلك هي واحدة سمات سلاسة أسلوبه حين يقول معلقاً: " وعندنا ان كثرة الجمل الاعتراضية ترجع الي قوة التداعي عند المهدي والي كثرة محفوظه وتزاحم المعاني والصور في ذهنه وترابط المعلومات والمناسبات ، وان هذه السمة تعد مصدراً من مصادر قوة أسلوبه ".. (ابوسليم : الاثار الكاملة للأمام المهدي ).
وفي منشوره لأمير سجن أمدرمان الامير ود الساير يوظف المهدي ذات المقدمة التي تمهد للأمر الاداري الذي سيليها وملخصه الترفق بالمسجونين الذي يقضون فترة عقوباتهم بعد الأحكام القضائية الصادرة ضدهم و يحث علي حسن معاملتهم وينهي عن حملهم قسرا علي الاعمال الشاقة .. والملاحظ هنا جنوح المهدي لإقحام بعض المفردات العامية علي نحو " المحابيس" او "المساجين" ليكسب كلماته التبسيط المطلوب في مثل هذا المقام .. وقد جاء فيما كتبه ..
" الحمد لله الوالي الكريم والصلاة علي سيدنا محمد وآله مع التسليم . وبعد من العبد المفتقر الي الله محمد المهدي بن عبدالله الي حبيبه وصفيه وعونه في دين الله الساير . حبيبي، ان الحدود زواجر وكفارات، وما دام ان المراد التصفية والدلالة الي الله والنجاة يوم القيامة من عذاب الله فمن اوتي إليك به للحبس فاستعمل فيه الرفق ، فأنه ما وضع في شئ الا زانه واجر عليهم حسب الحدود المشروعة ومن الذي يأتيك به الامر حسب الواردات الإلهية . ومن لم يكن كافراً او جاحداً فليكن اشتغاله بالذكر والصلاة في حبسه حتي يقضي أمره الذي فرض عليه، ولا يصير تشغيل المحابيس الا في ضرورة لزومهم لأن المقصود الدلالة الي الله و هي أجرها عند الله لا عندهم كما قال تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم: (ام تسألهم اجرا فهم من مغرم مثقلون ) . فلا يكن في دلالتنا الي ما يثقل عليهم من طلبنا منهم ما يعود لانفسنا الا ما طلبه الله منهم ، والسلام " .. ( ابوسليم : مصدر سابق).
ويقول الدكتور ابوسليم محللاً تلك الأمثلة من اُسلوب الامام المهدي في الكتابة : " عادة يبدأ المهدي كلامه بتمهيد يدور في فلك نظري ثم ينتقل منه الي الغرض المباشر الذي دفعه الي الكتابة و هو في نظرنا اهم اجزاء الوثيقة و هدف المهدي من التمهيد هو إيجاد جو خاص او إطار عام يدور فيه الامر المباشر وذلك بتقديم المسببات والمبررات التي يقوم عليها الامر وهو بذلك يخلق علاقة بين الامر المباشر وبين الأفكار العامة التي يعمل لها " ..( ابوسليم: مصدر سابق).
وفي إطار التأكيد علي كيان السودانيين الشعبي المستقل والتشديد علي هويتهم الثقافية المختلفة عن الترك.. يلُبس المهدي كلماته رداء تمتزج فيه القوة مع وضوح المقصد الذي لا يلتبس بأي حالٍ من الأحوال علي القارئ .. فنجده يدعو الي تبني طريقة المتصوفة بإرثهم الشعبي الأقرب لوجدان الجماهير في كتابة الحروف كوسيلة متفق عليها في كتابة وثائق الدولة الرسمية بدلا من الرسم التركي السائد قبل المهدية .. ذلك الرسم الذي اختلطت فيه الحروف مما أدي الي تغيير المعاني بعض الشئ .. وفي هذا يقول: " الحمد لله الوالي الكريم والصلاة علي سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد فمن عبد ربه محمد المهدي بن عبدالله اعلاماً منه الي جميع كتبة احكام المهدية وانصار الدين اما بعد فالذي نعلمكم به ان الله سبحانه وتعالي قال في كتابه: ( أحسنوا ان الله يحب المحسنين ) . وحيث فهمتم ذلك فلابد من احسان الخط وتجويفه وعدم تغيير الحروف وقلب معانيها، فقد اهلك الله المغيرين ودمرهم. فاتركوا خطهم ولا تسلكوا مسلكهم وأظهروا السين من بِسْم الله الرحمن الرحيم والشين من الشيطان الرجيم، فأعطوا الحروف حقها كما أُنزلت وحسبما عُهد فيما سلف، وتعليق الكاف والهاء الذي على هذه الهيئة الاحسن تركهما. فإياكم وكتابة الترك مرة ثانية. فاجتهدوا في أخذ حذركم منها كي تعودوا ايديكم على كتابة القرآن العظيم بالذي انزل بها. فاحفظوا امرنا هذا واعلموا الجميع به " . . ( ابوسليم : مصدر سابق).
ويتضح جلياً مما سبق ذكره عمق ادراك المهدي لجوهر صراع الثورة مع قوي الحكم التركي و استصحابه لأهمية الانتصار لشعبه في صراع الهوية الوطنية المستقلة بشقيها الثقافي والأيدولوجي لاستكمال ملامح سودان أواخر القرن التاسع و الذي بدأت قسماته بالتشكل بمنأى من كل أدوات الاستلاب الثقافي بما في ذلك رسم الحروف والكلمات.
ويعلق المفكر المصري الدكتور محمد عمارة علي تلك النزعة القومية في كتابات المهدي ضد التتريك قائلا : " اننا واجدون أنفسنا امام فكر قومي وطني ، يرفض السلطة العثمانية ويؤكد علي ان السودانيون هم قوم غير الأتراك .. وهنا ومن هذا الباب تدخل المهدية الي ساحة الفكر القومي الذي تصدي للعثمانية والتتريك فيما تصدي له مِن تحديات " .. ( عمارة : تيارات الفكر الاسلامي ).
لقد كان قلم الامام المهدي- بحسابات زمانه و علي مستوي اللغة والاسلوب – إضافة حقيقية للموروث الثقافي للأمة . لقد أعمل مداده في صحائف ذلك الزمان بانسياب فريد فأرتقي بما كتب بعيداً عن مراتب التصنع والتكلف .. و أكسب كلماته وبيانه سحراً إئتلق بفكره المتقد و روحه الوثابة للتحرر والانعتاق من قيودٍ ما كان ليتحرر من إسارها لولا إحساسه الصادق بمعاناة شعبه وايمانه العميق بالانتصار الحتمي للثورة التي قادها .. وليس أدل علي ذلك من شاهد من ما قاله الدكتور ابوسليم في ذات المعني: " يكتب المهدي محرراته بأسلوب مباشر لا اثر فيه للتكلف والصناعة، وفي كلامه قوة و حرارة تنبعان من عمق إيمانه " .. وفي ذات السياق ايضا يقول الدكتور عبد الودود شلبي: " بهذا الإدراك والعقل والبصيرة كان المهدي يقول كلمته. كان دائماً حاضر البديهة، متقد الذهن والفكرة، قوي الشاهد والحجة، كما كان واسع الثقافة كثير الخبرة وقد ظهر ذلك واضحاً في كتاباته ومنشوراته " .. (شلبي : مصدر سابق).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.