مرتزقة أجانب يرجح أنهم من دولة كولومبيا يقاتلون إلى جانب المليشيا المملوكة لأسرة دقلو الإرهابية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    دقلو أبو بريص    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤرخ نعوم شقير في الميزان .. بقلم: أ. د. أحمد إبراهيم أبوشوك
نشر في سودانيل يوم 15 - 03 - 2013

(بمناسبة مرور تسعة أعوام على رحيل البروفيسور أبوسليم)
المهندس أبوعاقلة سليمان، الخبير في إدارة التطوير العمراني بدولة قطر، له اهتمام واسع بتاريخ السُّودان، وقراءات متفرقة في نواحيه، آخرها الطبعة المترجمة لكتاب القِسّ أهرولدر، عشر سنوات في سجن المهدي. وفي أثناء عرضه وتعليقاته على ماجاء في هذا الكتاب في إحدى الجلسات الإخوانية السامرة، سأل سؤالاً مشروعاً عن مدى صدقية ومرجعية كتاب نعوم شقير، جغرافية وتاريخ السُّودان؟ وبسؤاله هذا ذكَّرني بورقة جيِّدة الصنِّعة، قدَّمها البروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم (ت. 2004م) في الاحتفال المئوي العالمي للثورة المهدية، بعنوان: "نعوم شقير مؤرخاً"، الخرطوم، 1981م؛ ونشرها لاحقاً ضمن مجموعة مختارة من أوراق المؤتمر التيحررها الدكتور عمر عبد الرازق النقر، بعنوان: "دراسات في المهدية"، الخرطوم: دار النشر جامعة الخرطوم، 1982م؛ ثم أعاد نشرها في كتابه الموسوم ب "أدباء وعلماء ومؤرخون في تاريخ السُّودان"، بيروت: دار الجيل، 1991م.وفي الجزء الخاص بتصويباته واستدراكاته لكتاب نعوم شقير، يقول البروفيسور أبوسليم: "ليس الغرض من ذلك، الحط من مقدرة نعوم، وقدر كتابه، وإنما نبغي من وراء ذلك خدمة الحقيقة، وفي بالنا أنَّ المئات من الطلاب، وأساتذة التاريخ، وجمهور القراء، يعتمدون على هذا المؤلف، ويرجعون إليه. ومن حق هؤلاء علينا أن ندلهم على مواضع الخطأ ... نستدرك بالتعليق بعض ما فاته [أي شقير]، أو غمض عليه، أو كان عجلاً فيه." (ص: 268)
وبهذا الاستهلال الفَطِن شرع أبوسليم في تشريح كتاب نعوم بشارة شقير، تشريحاً أكاديمياً ناضجاً، مهَّد له بالخلفية الأسرية للمؤلف، الذي وُلُد بقصبة الشويفات بلبنان حوالى عام 1864م، وأكمل تعليمه الجامعي في الكلية الإنجيلية السوريه (الجامعة الأمريكية بيروت لاحقاً) عام 1883م، وبعد تخرجه هاجر إلى مصر، حيث التحق بخدمة الجيش الإنجليزي، ثم تحوَّل إلى خدمة الجيش المصري، وفي عام 1889م التحق بمخابرات الجيش المصري، وكانت مهامه الرئيسة تتمثل في جمع المعلومات الاستخباراتية الخاصة بالدولة المهدية. ومنذ عام 1901م إلى تاريخ وفاته بالقاهرة عام 1922م ألَّف شقير مجموعة من الإصدارات الموسوعية القيمة، أهمها تاريخ السُّودان القديم والحديث وجغرافيته، الذي صدرت طبعته الأولى في ثلاثة أجزاء في القاهرة عام 1903م، وصدرت الطبعتان الثانية والثالثة عن دار الثقافة ببيروت، بعنوان: "جغرافية وتاريخ السُّودان"، تباعاً في عامي 1967م و1972م؛أما الطبعة الرابعة، التي قدم لها البروفيسور أبوسليم، فصدرت عن دار الجيل ببيروت، عام 1981م، لكنها أسقطت الجزء الخاص بجغرافية السُّودان؛ وبعد أن نفدت طبعتها من أسواق الكتاب العربي، أصدرت دار عزة للنشر والتوزيع بالخرطوم طبعة خامسة وكاملة للكتاب، بشقيه الجغرافي والتاريخي، مع مقدمة للبروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه، وذلك في عام 2007م. يبدو أن أهمية هذا الكتاب قد دفعت أبو سليم إلى القول:
"يحتل كتاب نعوم شقير، تاريخ السُّودان القديم والحديث وجغرافيته، أهمية خاصة بين المؤلفات التي تتناول تاريخ السُّودان، وقد ظل هذا المؤلف رغم توالي الأعوام، وتبدل الحال، وتقدم الدراسات السُّودانية، مرجعاً لا يستغنى عنه. وهو يضع بين يدي القارئ الحقائق الأساسية عن السُّودان وأهله، من أقدم عصور التاريخ إلى الوقت الذي انتهى طبعه فيه، وهو نهاية السنة الثالثة [من القرن العشرين]. ويعتبر الكتاب بحق خزانة كبرى؛ للحقائق والبيانات الجغرافية، والتاريخية، والبشرية، والثقافية. وقد جاء وضعه بعد أن صدرت بوحي المخابرات المصرية، بقيادة الجنرال ونجت، وبعونها المباشر، عدة كتب، وصفت أحوال المهدية وأخبارها بعداء ظاهر، حيث يمكن أن تُعدُّ دعوة صريحة لغزو السُّودان، وإسقاط المهدية. فلما جاء كتاب نعوم كان الوقت قد تغير، وحلَّ المؤرخ محل الداعي، وأضحى الهدف من التأليف هو التاريخ، فتعدلت صورة المهدية على يدي نعوم، عمَّا كانت عند ونجت، وأهرولدر، وسلاطين، بدرجة محسوسة. وقد لون هذا الكتاب أفكار الناس وآراءهم حول المهدية، وجرت آراء نعوم وتقريراته بين سطور المؤرخين، ولم يتسن لقارئ التاريخ أن يقف على ما يجانبه؛ إلا بعد أن ظهر التيار الجديد من المؤلفات، بدءاً بالسُّودان في قرن للمرحوم مكي شبيكة." (ص: 209م).
وحسب طبعة بيروت لعام 1972م، يشغل فهرس كتاب نعوم شقير بأجزائه الثلاثة، وأبوابه، وفصوله 8 صفحات؛ وديباجته أيضًا8 صفحات. يتكون الجزء الأول من 244 صفحة، والجزء الثاني من 148 صفحة، والجزء الثالث من 688 صفحة، والملاحق من 15 صفحة، وتصويب الأخطاء من صفحتين، وفهرس الأعلام والموضوعات من 32 صفحة. وبذلك يفوق عدد صفحات الكتاب 1145 صفحة، يتناول جزءها الأول جغرافية السُّودان الطبيعية، والبشرية، والإدارية؛ ويتحدث الجزء الثاني عن تاريخ السُّودان القديم؛ أما الجزء الثالث فموضوعه تاريخ السُّودان الحديث، الذي يبدأ بالحكم التركي المصري (1821-1885م)، ويتوسط ذورة سنامه تاريخ المهدية (1881-1898م)، و تتبلور خاتمته فيما أطلق عليه المؤلف "حملات استرجاع السُّودان"، العنوان الذي بخسه أبوسليم، ووصفه بأنه "لفظ كريه، ابتدعته المخابرات لتبرير الغزو".
إذاً ما تقييم البروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم لكتاب نعوم شقير؟
يتشكل تقييم البروفيسور أبوسليم لكتاب تاريخ السُّودان القديم والحديث وجغرافيته في أربعة محاور، وخاتمة. يتناول المحور الأول البيئة السورية-الأرثوذكسية التي نشأ فيها المؤرخ شقير، وانعكاسات ذلك على توثيقه لتاريخ السُّودان، وطبيعة علاقته بالطرف الآخر الذي وثَّق له، أوبلغة ابن خلدون، مدى وعيه بواقع العمران البشري الذي تعامل معه في السُّودان. ويجيب أبوسليم عن هذا التساؤل في المحور الثاني الخاص بولاءات شقير، ورؤيته للشعب السُّوداني، قائلاً: شقير "لم يعرف السُّودانيين عن كثب، ولا خبرهم بشكل مباشر، وإنما عرفهم بوحي ما قرأ، وما سمع، والقليل الذي رأي، وقد كانت نظرته عموماً نظرة متعالية، نظرة متحضر في قوم غير متحضرين، وهي نظرة ورثها عن جاليته، وعن المصريين، بل ومن المخابرات التي ظلت تعكس أحوال السُّودان بلون مغرض. وقد تسامح قليلاً مع المجتمع الشمالي العربي، بحكم رابطة اللغة، والوشيجة العربية، والتراث العربي؛ ولكنه كان فظًا مع غير العرب." إذ يصف السود بقوله: "أما قواهم العقلية فقاصرة جداً، وترقيهم محدود، وهيئتهم تُؤذن بالهمجية ... وأسوأ ما في أخلاقهم العناد، وجفاء الطبع، وقلة التدبير والحزم". (ص: 248). وهذه النظرة النمطيه الخاطئة قد ورثها شقير من المدونات العربية القديمة التي وقف عليها.أما إطراءاته لمصر وطنه الثاني، وخديويها الحاكم بأمره وأمر المستعمر البريطاني، وقلم مخابراتها الضالع في الشأن السُّوداني، فقد كانت إطراءات مصلحية؛ ألقت بظلالها السالبة على بعض جوانب تاريخ السُّودان وجغرافيته، لكنها لم تفسد تماماً الحجة التي أسسها عليها شقير مفردات مشروعه لتأليف كتاب عن السُّودان.
وتقودنا هذه الجزئية إلى المحور الثالث من تقييم البروفيسور أبوسليم، الذي أشار فيه إلى وجاهة منطلقات شقير وموضوعيته بشأن تأليف تاريخ السُّودان وجغرافيته، ويستشهد في ذلك بنصوص مختارة من مقدمة شقير، جاء فيها:
"شوقني الاشتراك في الوقائع إلى معرفة تاريخ السُّودان وجغرافيته، فتصفحت كتب التاريخ والسياحات التي تبحث في السُّودان صريحاً، أو عرضاً، من قديمه وحديثه، إفرنجية وعربية، مطبوعة وغير مطبوعة، ومازجت الأهلين على اختلاف طباقاتهم، وأجناسهم في مصر والسُّودان، فاختبرت عاداتهم وأخلاقهم، وأخذت عن ثقافتهم ما علموه من تاريخ بلادهم، مما خبروه بأنفسهم، أو حفظوه عن آبائهم حتى أنه لم يكد يبقى أثر عن السُّودان في ذاكرة أهله وفي الكتب إلا اطلعت عليه، واثبته في محفوظاتي الخاصة. فاجتمع عندي مطول ضخم جامع لكل ما ترام معرفته عن أحوال السُّودان، مما يوجد في كتاب واحد من الكتب العربية، أو الإفرنجية، بل ليس منه العربية إلا رسائل متفرقة أو نبذ خاصة من مباحث التاريخ أو الجغرافية ... لأدباء السُّودان ولع شديد في حفظ آثارهم، والوقوف على تاريخ بلادهم، ولم يتسن لأحد منهم إدراك هذه الأمنية. وكان الكثيرون من أهل مصر، وغيرهم مهتمين للوقوف على حقيقة حال السُّودان." (ص: 251).
وبناءً على هذا النص المقتبس من مقدمة شقير يثمن أبوسليم نبل المقصد، ووجاهة الرأي، وسلامة الإحساس الشخصي للمؤرخ نعوم شقير، الذي تحمَّل مسؤولية إعداد كتاب عن تاريخ السُّودان وجغرافتيه، لكنه يُقرّ بأن التقييم الموضوعي للكتاب لا يتمَّ دون النظر في المصادر التي أعتمد عليها المؤلف، والآليات التي استخدمها في تفسير تلك المصادر، علمًا بأن المصدر يظل مقدسًا من حيث المعلومات التي يحويها؛ ولكن تفاسيره تختلف، حسب تأهيل المؤرخ، وتحليله الموضوعي للأحداث، وبُعده عن التشيع للآراء والمذاهب، ومعرفته بمقاصد الأحداث، وإلمامه الواسع بطبائع العمران البشري التي يتعامل معها.
وينطلق أبوسليم من هذه الملاحظات إلى المحور الرابع، المرتبط بمصادر كتاب نعوم شقير، التي يعتبرها أبوسليم أحد آليات تقويم الكتاب، وعليه يصف مصادر معلوماته عن التاريخ القديم، وتاريخ مملكتي النوبة، والنصرانية، والبجة في شرق السُّودان بأنها متواضعه؛ لأنها اكتفت بالمراجع العربية والإنجليزية، وكتب التراث الإسلامي التي كانت متاحةً للمؤلف آنذاك. وضيق وعاء المصادر جعل أبوسليم يصف عرض شقير لتاريخ السُّودان القديم والوسيط بأنه عرضٌ ضامرٌ، وخالٍ من أساليب التحليل والمقارنة؛لأنه حصر نفسه في الجمع، والعرض المسلسل، وإعادة الصياغة الأسلوبية. ويضاف إلى ذلك، قلة معرفة شقير بتاريخ السُّودان القديم والوسيط، لذلك "كانت أهمية هذا الطرف من تاريخه أهمية محدودة، وقد أخذه منه الزمن الآن، ففقد الكثير من قيمته". (ص: 258).وهنا يشر أبوسليم، من غير افصاحٍ، إلى الدراسات الأكاديمية اللاحقة التي تناولت تاريخ السُّودان القديم والوسيط، بمعرفة أكاديمية ثاقبة، وإلمام بالمصادر المتاحة، ومناهج البحث الحديثة، ونذكر منها على سبيل المثال أعمال الأساتذة الأجلاء محمد علي أحمد الحاكم، وعلي عثمان محمد صالح، والأب فانتيني، ويوسف فضل حسن، وجي أسبولدنق، وركس شون أوفاهي.
أما مصادر شقير عن التاريخ التركي المصري في السُّودان، فيصفها أبوسليم باستقامة الحال مقارنة مع سابقتها؛ لأن شقير حسب وجهة نظره قد خرج من دائرة النقل والتلخيص إلى درجة أسمى، عكست سمو معرفته بتاريخ ذلك العصر، فضلاً عن إفادته من كتب الرحالة، والروايات الشفوية التي كانت متداولة في تلك الفترة، لكن أبوسليم أخذ عليه عدم استئناسه بوثائق العهد التركي التي كانت مودعة في القاهرة آنذاك.
فيما يختص بتاريخ المهدية، يُقر أبوسليم أن نعوم شقير قد اعتمد في عرضه على طرفٍ من وثائق المهدية، والروايات الشفوية، وملاحظاته الخاصة، وذلك بحكم موقعه في إدارة المخابرات المصرية؛ إلا أن توظيفه لتلك المصادر كان محل نظر بالنسبة لأبي سليم، الذي قطع القول بأن علمه بوثائق المهدية لم يتعد الوصف الخارجي، وإنه لم يوظف تلك الوثائق بالقدر المطلوب في البحث العلمي. ويعزى أبوسليم هذا القصور في توظيف الوثائق إلى ثلاثة أمور رئيسة. أولها قصر المدة بين عثور نعوم شقير على الكم الهائل من وثائق المهدية وتأليف كتابه؛ وثانيها أن شقير نفسه لم يأخذ بمنهج توظيف الوثيقة في كتابة التاريخ؛ وثالثها ميله الواضح للروايات الشفوية التي كان معظم رواتها من الساخطين على المهدية. ولذلك يقول أبوسليم أن شقيراً لو وظف ما حصل عليه من الرواة، وجمعهمن المؤلفين، وحلل ما جاء في الوثائق تحليلاً موضوعيًا "لبلغ كتابه مبلغ الاستقامة والكامل". (ص: 264).
ومن الناحية المنهجية، يصف أبو سليم منهج نعوم شقير في كتابة الكتابة، بأنه منهج غير متخصص، مال صاحبه إلى التاريخ السياسي، وأغفل الحديث عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحيطة بكل حدث سياسي،واكتفى بتوظيف ظاهر لوثائق المهدية؛ فغاب عنه البُعد الداخلي،لذلك لم يستوعب المفهوم الديني للثورة المهدية، فغلب عليه حدسه الديني الأرثودكسي، فجعله يذهل عن مقاصد بعض الأحداث التي وقعت في المهدية. لكن ضعف المنهجية في كتابة تاريخ السُّودان القديم والحديث لم يمنع أبوسليم القول بأن نعوم شقير كاتب "متمرس ... حصل على قدر عظيم من البيانات عن الموضوعات التي كتب فيها، وخبر تفاصيلها. وهو يورد كل ما يصل إليه بأمانة، ودقة ... وقد أحسن العرض والصياغة. ومن هنا فإن تاريخه جاء خزانة كبرى للحقائق. لا يمكن لأي منصف أن يغفل عن هذا الذي بلغه نعوم، ولا لأي مطلع أن يتغاضى عما كتب." (ص: 281)
خاتمة
بعد هذا العرض لتقييم البروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم لكتاب تاريخ السُّودان القديم والحديث وجغرافيته، تبقى لنا الملاحظات الآتي:
أولاً: أنَّ كتاب نعوم شقير مصدر مهم في تاريخ السُّودان الحديث (التركية، والمهدية والحكم الثنائي)، لايمكن الاستغناء عنه؛ لأن مؤلفه كان شاهد عيانٍ على بعض الأحداث والقضايا التي وقعت في ذلك العصر، وأحداث أخري نقلها عن معاصريها، أو بعض الذين اشتركوا في صياغتها، فضلاً عن أنه نقل بعض الوثائق المرتبطة بتاريخ العهد التركي المصري، والمهدية، وبواكير الحكم الثنائي في السُّودان.
ثانياً: أنَّ كتاب نعوم شقير موطن جدل واسع في بعض الأحداث المرتبطة بتاريخ المهدية؛ لأن مؤلفه تأثَّر إلى حدٍ ما بواقعه الفكري والديني عندما نقل بعض الأحداث المتعلقة بتاريخ المهدية، إضافة إلى إن بعض رواياته تأثرت بالمحيط الاستخباري الذي نشأت فيه، وبعضها لم تُفسر بآليات أكاديمية في إطار واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ إلا أن هذه الاخفاقات قد تجاوزها الزمن؛ لأن المدرسة التاريخية السُّودانية الحديثة قد خطت خطوات واسعة تجاه تحليل الموضوعات التي تناولتها، والمناهج الأكاديمية التي اتبعتها في تفاسير الأحداث التاريخية، وإعادة تركيبها وفق معطيات الواقع المحيط بها، وفوق هذا وذاك استند معظمها إلى كمٍ هائلٍ من الوثائق التاريخية المكتوبة، والمصادر الشفوية المتنوعة. وبالنسبة للموضوعات والتناول الأكاديمي، نلحظ ذلك جليَّا في كتابات البروفيسور ب. م. هولت،والبروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم، والبروفيسور محمد سعيد القدال، وآخرين؛ أما وثائق المهدية فقد استقام ميسمها عند أبوسليم، الذي جمعها، وحققها، وعلَّق عليها في أسفار متعددة، أجلَّها مقاماً كتاب الآثار الكاملة للإمام المهدي، الذي وضعه في ستة مجلدات، ومجلد سابع لفهارس الأعلام، والأماكن، والموضوعات المفتاحية.
ثالثاً:إنَّ مرجعية كتاب نعوم شقير تختلف عند قارئين، أحدهما المؤرخ الذي يستطيع أن يوظف معلومات شقير بطريقة أكاديمية-مهنية، تنقيها من شوائب الغرض، وتضعها في مسارها التاريخي السليم، ثم تعالج مفرداتها وفق معطيات الظروف التاريخية التي نشأت فيها؛ أما القارئ غير المتخصص، فيوظف بعض المعلومات حسب تطلعاته السياسية والاجتماعية، وأجندته الخاصة أحيانًا؛ لذلك نجد بعض القراء يشتط في تقييم كتاب شقير، ويصنِّفه ضمن ما انتجه قلم المخابرات المصرية في سبيل القضاء على المهدية وأنصارها، فلا جدال أنَّ مثل هذا التصنيف تصنيف مجحف؛ لأن كتاب شقير يزخر بمعلومات قيِّمة ومفيدة، وإن اختلفنا مع شقير في تفسير بعضها.
رابعاً:إنَّ الدعوة لإعادة كتابة تاريخ السُّودان، دعوة جوفاء، تظهر مع ظهور الأنظمة الشمولية التي تهدف إلى توظيف عملية انتاج التاريخ لمصلحة مسارها السياسي؛ علماً بأن عملية كتابة التاريخ عملية دائمة ومستمرة، يتسع فضاؤها حسب توفر المصادر التاريخية وتنوعها، وتجدُّد المناهج البحثية القادرة على استنطاق المصادر،وإعادة النظر في قراءات الأولين؛لأن إثبات حقيقة المصدر التاريخي لا ينفي تعدد تفاسير الحدث التاريخي الواحد في المصدر المثبوت، إذا أخذنا في الحسبان أنَّ كتابة التاريخ ليست استنساخاً للماضي، بل إعادة تركيب لمفرداته وفق معايير وآليات أكاديمية تجعلها أقرب إلى الواقع والصواب.
Ahmed Abushouk [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.