عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يرفض السقوط.. والنصر يخدش كبرياء البطل    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال الجزولي : بَيْنَ رِحَابِ الحُرِّيَّةِ وحَظَائِرِ الاسْتِبْدَاد!
نشر في حريات يوم 04 - 10 - 2016


من أرشيف الكاتب:
عِيدُ أَضْحَى سَعِيدٌ
بَيْنَ رِحَابِ الحُرِّيَّةِ وحَظَائِرِ الاسْتِبْدَاد!
كمال الجزولي
(1)
أضحكتني، مليَّاً، صبيحة عيد الأضحى المبارك، نكتة مصوَّرة بثَّتها بعض القنوات الفضائيَّة على سبيل المعايدة المستطرفة، حيث دلف، بغتة، جزار بسكين، وساطور، وشارب كثٍّ، ووجه مكفهر، إلى حظيرة خراف؛ فما أن رأته حتَّى فزعت، وهاجت، وماجت، ثمَّ ما لبثت أن انقلبت تتقافز، وتنقنق، فاردة أجنحة متخيَّلة، ونافشة ريشاً متوهَّماً، محاوِلة خداعه بأنها "فراخ" لا "خراف"، حتَّى لقد وضع أحدها بيضة حقيقيَّة، ولكن .. هيهات!
تلك المعايدة خفيفة الظلِّ استدعت إلى ذاكرتي، على الفور، نكتة أخرى، فضلاً عن حكاية طريفة. النكتة الأخرى تُروى عن دكتاتور شهير فقد غليونه عقب اجتماع صباحي كان منعقداً بمكتبه لرهط من معاونيه، فطفق يبحث عنه وسط الإضبارات والملفَّات بلا جدوى؛ ولمَّا لم يجده هاتف، كعادته، مدير مخابراته الذي كان يعدُّه ذراعه اليمنى، لطاعته العمياء، وولائه الشَّديد، طالباً منه البحث عن الغليون، فلربَّما أخذه أحدهم، دون قصد، بين أوراقه!
غير أن الدكتاتور ما لبث أن وجد الغليون، بالمصادفة، على طاولة جانبيَّة. وبعد أن أشعله، ونفث دخانه، متلذِّذاً، تذكر مدير مخابراته، فاتَّصل يبلغه:
"خلاص .. لا داعي لأن تزعج نفسك، لقد وجدته"!
لكن ردَّ مدير المخابرات المندهش سرعان ما جاءه من الطرف الآخر:
"مستحيل يا سيِّدي المبجَّل .. فقد اعترف خمسة، حتَّى الآن، بأنهم أخذوه"!
...…………………………..
...…………………………..
أما الحكاية الطريفة فتُروى عن خراف دخل الجَّزَّار زريبتها، كالعادة، بسكِّينة حادَّة تلمع في يمناه، واختار كبشاً فتيَّاً، ضخم البنية، هائل القرنين، وحاول سحبه لذبحه في المسلخ المجاور. شعر الكبش العملاق بالرَّهبة، فتذكَّر القاعدة رقم واحد في دستور القطيع، والتي تقول: "عندما يقع الاختيار عليك فلا تقاوم، لأن هذا لن ينفعك، فضلاً عن أنه سيُغضب عليك الجَّزار، ويعرِّض حياتك وحياة أهلك للخطر"! وعلى الفور قرَّر الكبش أن يتجاهل تلك القاعدة، قائلاً لنفسه: "يا لها من قاعدة حمقاء؛ فإذا لم تنفعني مقاومتي؛ فإنَّها، بالتَّأكيد، لن تضرَّني"! ثمَّ ما لبث أن انتفض انتفاضة أسد هصور، وفاجأ الجَّزَّار بنطحة عظيمة مكَّنته من الإفلات، والروغان وسط القطيع.
أمسك الجَّزار بخروف آخر مسالم، مستسلم، لا يبدي أيَّة مقاومة، ولا يُصدر إلا صوتاً خافتاً، خانعاً، يودِّع به أهله، فسحبه، بسهولة، وخرج به.
هكذا بقيت الخراف، في كلِّ مرَّة، تنتظر الموت، واحداً فواحد، دون أن تنسى تذكير من عليه الدَّور بالقاعدة: "لا للمقاومة"!
وذات مساء تعب الجَّزَّار، فذهب يأخذ قسطاً من الرَّاحة، مؤجِّلاً بقيَّة عمله إلى الصَّباح. وكان الكبش المتمرِّد قد أضمر مغادرة الزَّريبة، وإخراج بقيَّة القطيع معه. لكن الخراف وقفت ترقبه ينطح السِّياج وحده، مندهشة من جرأته وتهوُّره. لم يكن السِّياج قويَّاً، فالجزَّار كان يدرك أن خرافه أجبن من أن تحاول الهروب! بعد قليل، وبموالاة النَّطح، انهار السِّياج، فلم يصدِّق الكبش عينيه، وأخذ يستحثُّ رفاقه ليهربوا معه قبل أن يطلع الصَّباح. غير أنه فوجئ بعدم استجابتهم، بل راحوا يشتمونه، ويرتعدون رعباً من أن يكتشف الجَّزَّار ما حدث! مع ذلك عزَّ على الكبش أن ينجو بجلده وحده، فأخذ يرمقهم في أسف، منتظراً، بلا طائل، أن يثوبوا إلى رشدهم، ولو في آخر لحظة.
في الصَّباح ذُهل الجَّزَّار مرَّتين: مرَّة عندما وجد سياج الزَّريبة منهاراً، والقطيع، مع ذلك، بالدَّاخل! ومرَّة أخرى عندما أبصر، وسط الزَّريبة، كبشاً ميتاً، وجسده مثخن بالجِّراح جرَّاء نطح عنيف تعرَّض له. وما أن اقترب منه حتَّى صاح:
"يا الله .. إنه الكبش الذي أفلت منِّي بالأمس"!
راحت الخراف ترنو إلى الجَّزار بنظرات يمتزج فيها الاعتذار عمَّا فعل الكبش مع الفخر بما فعلت هي بالكبش! أما الجَّزَّار فقد كانت سعادته لا توصف، حتَّى لقد أغدق على القطيع عبارات الثَّناء والإطراء، قائلاً:
"يا قطيعي الجَّميل .. كم يزداد تقديري لكم! ونسبة لحسن تعاونكم لديَّ خبراً سيسعدكم: فأنا، ابتداءً من هذا الصَّباح، لن أسحب أيَّ واحدٍ منكم إلى المسلخ بالقوَّة، لأنني اكتشفت أن ذلك قاسٍ عليكم، وجارح لكرامتكم! لذا، فما عليكم، يا خرافي الأعزَّاء، سوى أن تنظروا، كلَّ صباح، إلى باب المسلخ، فإن لم تروا سكِّينتي معلقة عليه، فهذا يعني أنني أنتظركم بالدَّاخل، فلتأتوا إليَّ واحداً فواحدٍ، ولتتجنَّبوا التَّزاحم .. وفي الختام لا يفوتني أن أشيد بدستوركم العظيم: لا للمقاومة"!
(2)
بين النكتتين والحكاية خطرت لي بعض استنتاجات عبد الرَّحمن الكواكبي (1855م – 1902م)، أشهر من بحث في "طبائع الاستبداد" في التُّراث العربي المعاصر، حيث يعزو بعض الأسباب التي تمكِّن لهذه الطبائع في علاقة المستبد برعيَّته إلى "الجَّهل" الذي يولد "الخوف". فالمستبد، في رأيه، يعلم، تماماً، أن الاستعباد لا يكون إلا حيث يكون الجَّهل، ".. فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفَّاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجَّهل، ولو كان وحشاً، لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل"! ويمضي الكواكبي مؤكِّداً أنه على حين "يسعى العلماء في نشر العلم، يجتهد المستبدُّ في إطفاء نوره، والطرفان يتجاذبان العوام .. أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا .. ومتى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا"! ثمَّ يخلص إلى أن هؤلاء "العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجَّهل، فإذا ارتفع الجَّهل زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبدُّ، رغم طبعه، إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وأب حليم يتلذَّذ بالتَّحابب".
نظريَّة الكواكبي مثاليَّة بامتياز. وتقترب كثيراً، كما سنرى، من نظريَّة الفيلسوف الألماني ج. هيغل (1770م — 1831م) القائمة على شرط "الوعي/ العلم/ المعرفة/ الإدراك"، كأساس وحيد ل "الحريَّة". ومع أن الكواكبي لم يذهب إلى ما وراء "الجَّهل"، ليكشف عن سببه، مثلما أكَّد على أن "الجَّهل" نفسه هو سبب "الخوف"، إلا أنه شدَّد، في موضع آخر من مبحثه، على "أن خوف المستبد من نقمة رعيَّته أكثر من خوفهم من بأسه"! وفي تفسيره للأمر، على غرابته الظاهريَّة، يستدير إلى مقولة "العلم والجَّهل"، ليقرِّر أن مصدر "خوف" المستبد، هذه المرَّة، هو "العلم"، على عكس مصدر "خوف" الرَّعيَّة الذي هو "الجَّهل"؛ فعلى حين يخاف هو مِمَّا يعلم أنه حقيق، يخافون هم مِمَّا لا يعلمون أنه وَهْم!
(3)
"الحرِّيَّة"، بالمقابل، هي نقيض "الاستبداد"، أو، بالحريِّ، نقيض المناخ الذي يخلقه "الاستبداد" بصور مختلفة، قد يصادفك بعضها في علاقات إطار ضخم، كالدَّولة، مهما بلغ تشدُّقها ب "العدل"، أو حتَّى في علاقات إطار صغير، قياساً إلى "الدَّولة"، كالحزب السِّياسي، بالغاً ما بلغ ادعاؤه "التَّقدميَّة"، مثلما قد يصادفك بعضها الآخر في ما بين علاقات الكيانات المتضادَّة. وفي المستوى الفلسفي يرتبط مفهوم "الحريَّة"، وثيقاً، بمفهوم "الضَّرورة"، حيث يعكس هذا الارتباط العلاقة بين النَّشاط الذَّاتي "الحُر" للإنسان وبين تأثير الظروف الخارجيَّة الموضوعيَّة، أي قوانين الطبيعة والمجتمع غير المرتهنة لوعيه أو إرادته. ولئن كان الفيلسوف الهولندي ب. سبينوزا (1632 1677م) هو أوَّل من لامس هذه الإشكاليَّة في القرن السَّابع عشر، بمحاكمته العقلانيَّة لأثر "المعقوليَّة" في تحديد "حريَّة الفعل"، فإن هيغل هو أوَّل من وسَّع من أفق هذا المعنى الفلسفي، في القرن التَّاسع عشر، بتعريفه ل "الحرِّيَّة" بأنها "وعي الضَّرورة recognition of necessity"، فكاد يصيب كبد الحكمة، لولا أنه، بأثر من فلسفته المثاليَّة، قصَرَ أهمِّ دلالات درسه، في ما هو واضح، على "شرط" وحيد لتحقُّق "الحريَّة" هو "وعي الضَّرورة"!
وحدها المنظومة الماركسيَّة، في بعدها الفلسفي، هي التي أصلحت من عوار الرؤية الهيغليَّة تلك، كما سنرى لاحقاً.
الشَّاهد أن "الحريَّة"، فضلاً عن كونها تتحكَّم بوعي الإنسان، وتوجِّه خياراته، وتحتلُّ، لهذا، مركز الصَّدارة في فكر الحداثة البرجوازي المعاصر، فإن الخبرة الاجتماعيَّة، من زاوية نظر الكثير من مفكري هذه الحداثة الغربيين، تلعب الدَّور الأكبر في تخليق مفهومها، وتحديده، بارتباط مع جملة مفاهيم معياريَّة أخرى، كالعدل والمساواة، على سبيل المثال. لكن هنا، بالتَّحديد، يقع الاصطدام المدوِّي بين مفهوم "الحريَّة" وبين هذه المفاهيم المعياريَّة. ذلك أن الكفاح من أجل "الحريَّة" لا ينفصل عن الكفاح من أجل العدالة الاجتماعيَّة، وإلا صار محض ترتيب شكلاني لا يسمن ولا يغني من جوع؛ فهو كفاح تاريخي ضدَّ كلِّ الارتهانات التي تحدُّ من طموحات الفرد، وتطلعات الجَّماعة، والمآلات المستقبليَّة للنَّوع الإنساني بأسره؛ دَعْ، إلى ذلك، أن فكر الحداثة الغربي مثقل، أصلاً، في الوقت نفسه، بمفارقات أساسيَّة، أبرزها، كما يلاحظ بعض نقَّاده، أنه، من جهة أولى، ما ينفكُّ يراوح بين التأكيد "النَّظري" على استحقاق الفرد ل "الحريَّة"، وبين النُّزوع "العملي" لدى الأنظمة والأحزاب الحاكمة، في الدِّيموقراطيَّات الغربيَّة، للهيمنة، سواء في النِّطاق الدَّاخلي، أو في حقل العلاقات الدَّوليَّة، وسواء بأشكال الاستعمار الكلاسيكي، أو الاستعمار الجَّديد؛ كما وأن هذا الفكر، من جهة أخرى، يقدِّم مفهومين متناقضين ل "الحريَّة": بريطاني يعتبرها تفلتاً من القيود الاجتماعيَّة كافَّة، وقارِّي continental يؤكد عليها كالتزام بالواجب، فرديَّاً ومجتمعيَّاً.
من ثمَّ فإن "الحريَّة" في الفكر الحداثي الغربي لا تمثِّل، فقط، إشكاليَّة من إشكاليَّات الفلسفة، بل محوراً أساسيَّاً من محاور السِّياسة العمليَّة التي تعكس شتَّى مستويات وصور الصِّراع الطبقي بين مختلف الكتل الاجتماعيَّة.
(4)
ومع أن الدَّلالة الفلسفيَّة لمفهوم "الحريَّة" في الفكر الماركسي تكاد تلامس الفكر الهيغلي، إلا أنها تتجاوز عواره، كما سلفت الإشارة. ففي حين تؤكِّد الماركسيَّة، كما عند إنجلز، على "وعي الضَّرورة"، باعتباره شرطاً أساسيَّاً من أشراط "الحريَّة"، تفترق عن الهيغليَّة بكونها لا تعتبر "وعي الضَّرورة" هذا بمثابة الشَّرط الوحيد لهذه "الحريَّة"، حيث أن ثمَّة وجهين، ينبغي عدم الفصل بينهما، لدلالة "وعي الضَّرورة"، أحدهما هو "الاستيعاب النظري" لقوانين الطبيعة والمجتمع الموضوعيَّة، أي معرفتها، والآخر هو "الاستيعاب العملي" لنفس هذه القوانين، باستخدامها وتطبيقها.
وإذن، فمدى "الحريَّة" لا يتحدَّد بمحض "وعي الضَّرورة"، في معنى الاكتفاء ب "معرفة" القوانين الموضوعيَّة للطبيعة والمجتمع، بل، أيضاً، في معنى "استخدام" و"تطبيق" هذه القوانين عمليَّاً. بهذه الدَّلالة فإن "حريَّة" المجتمع، كضامن رئيس ل "حريَّة" الفرد، إنَّما تتعزَّز بالنُّموِّ المطرد لمستوى الإنتاج، واستثمار الوسط البيئي، خصوصاً في الجَّوانب المتَّصلة بالعلم والتكنولوجيا. لكن استخدام الأخيرَيْن في مجتمع التَّناحر الطبقي المنقسم يُفترض أن يختلف، تماماً، عن استخدامهما في المجتمع الاشتراكي المنسجم. فعلى حين يُفترض أن يُستخدما في هذا الأخير بما يخدم مصالح مجموع الشَّعب، ويحقِّق التَّقدُّم، والازدهار، فإن استخدامهما، في المجتمع التَّناحري، يتعارض ومصالح المنتجين الكادحين، الأمر الذي يخلق تناقضاً يستحيل فضُّه بدون تصفية النِّظام الاستغلالي نفسه، وبناء نظام العدالة الاجتماعيَّة، الطور الأوَّل، في بلداننا النَّامية، للنِّظام الاشتراكي ذي الوجه الإنساني الذي يُفترض أن يؤسِّس لتطوُّر القوى المنتجة، كخطوة حاسمة باتِّجاه تحقيق "حريَّة" المجتمع ككل.
تلك هي أهمُّ عناصر الدَّرس الماركسي حول "الحريَّة"، والذي يمكن تلخيصه، إجرائيَّاً، بأنها تعني "إدراك الضَّرورة، والقدرة على اتِّخاذ القرار وعلى العمل بناءً على هذا الإدراك".
لكن، مع أن الماركسيَّة كانت هي الفكر السَّائد، نظريَّاً، على النَّمط الستاليني لما كان يُعرف، ردحاً من الزمن، بالمعسكر الشَّرقي، إلا أن أطروحتها الصَّحيحة تماماً هذه حول "الحريَّة" لم تفلح، رغم كثافة البروباغاندا التي أحيطت بها، في التَّحوُّل إلى سياسة "عمليَّة" تقدِّم النَّموذج "الدِّيموقراطي" الملهم الذي كان ينبغي أن يُحتذى، على صعيدي الحزب والدَّولة كليهما، باعتبار أن الممارسة "الدِّيموقراطيَّة" هي التَّطبيق السِّياسي لمفهوم "الحريَّة" الفلسفي. فعلى الرُّغم من النَّجاحات الماديَّة المشهودة التي حقَّقتها التَّجربة الاشتراكيَّة التَّاريخيَّة، بوجه عام، في ما يتَّصل بمعيشة الشَّعب، ومكاسبه الاقتصاديَّة، في مستوى العمل، والمداخيل، وخدمات الصَّحَّة، والتَّعليم، والإسكان، والمواصلات، والرَّاحة، وما إلى ذلك، لدرجة أنك ما كنت لتصادف عاطلاً، أو متسوِّلاً، أو عاهرة محترفة، إلا أن تلك التَّجربة لم تستطع أن تحقِّق عشر معشار ما يكافئ تلك النَّجاحات في مستوى "حريَّة" التَّجمع، والتَّنظيم، والتَّعبير، والاعتقاد، والصَّحافة، والإعلام، والتنقُّل، وتلقي المعلومات، والمشاركة السِّياسيَّة، وغيرها. كان ذلك النِّظام السِّياسي مصمَّماً بشكل شمولي، وكانت الأفواه مكمَّمة، والأيدي مغلولة، والسِّتار الحديدي قائماً، وكان ذلك، لا انتصار المعسكر الرَّأسمالي كما يُشاع خطأ، هو السَّبب الفعلي وراء انهيار تلك التَّجربة التَّاريخيَّة، بالتَّلازم مع انهيار حائط برلين في خواتيم ثمانينات ومطالع تسعينات القرن المنصرم، مِمَّا يستوجب الاعتراف المستقيم، ومن ثمَّ المراجعة النَّظريَّة الشُّجاعة.
(5)
في المعسكر الغربي تتوفَّر "الحريَّة" السِّياسيَّة، إلى حدٍّ كبير، لكن واقع الممارسة الشَّكلانيَّة للدِّيموقراطيَّة الخالية من المحتوى الاجتماعي، فضلاً عن التَّفاوت الطبقي الحاد، والمتمثِّل في غياب الحقوق الماديَّة للعمَّال وعموم الكادحين، إنَّما يتهدَّد البناء الرَّأسمالي كله بالانهيار، طال الزَّمن أم قصُر، ومهما أفلح السَّحرة والحواة من خبرائه في ترميم أزماته هنا أو هناك!
أما في تجربة المعسكر الشَّرقي فقد أزيل التَّفاوت الطبقي، إلى حدٍّ كبير، وتوفُّرت، طوال عشرات السَّنوات، المكاسب الاقتصاديَّة الماديَّة لعموم النَّاس، ومع ذلك فقد تسبَّب غياب "الحريَّة" السِّياسيَّة، على مستوى الممارسة الفعليَّة، في الانهيار المدوِّي لتلك التَّجربة!
وإذن، ما لم يشعر النَّاس بأنهم أعزة مادِّيَّاً ومعنويَّاً، ومالكون ل "حريَّتهم" الفعليَّة، لا الشَّكليَّة، أو النَّظريَّة "الشِّعاراتيَّة" فقط، سواء في حياتهم المعيشيَّة، أو في مشاركتهم الديموقراطيَّة، فلن يتحقَّق فلاح، أو ازدهار، أو استقرارٌ، لا في مستوى الحزب، ولا في مستوى "الدَّولة"، لا اقتصاديَّاً، ولا سياسيَّاً، ولا اجتماعيَّاً، ولا ثقافيَّاً .. وكلُّ عام وأنتم بخير.
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.