المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن تسليم الدفعة الثانية من الأجهزة الطبية    مشاد ترحب بموافقة مجلس الأمن على مناقشة عدوان الإمارات وحلفائها على السودان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكري معركة شيكان .. قراءة تحليلية لردود أفعال الصحافة البريطانية وبعض الصحف العالمية بعد الواقعة
نشر في حريات يوم 05 - 11 - 2016

في 5 نوفمبر من العام 1883 إنتصرت الثورة المهدية إنتصاراً تاريخياً ومفصلياً علي الحملة العسكرية الغازية بقيادة الجنرال البريطاني وليام هكس بغابة شيكان التي لا تبعد كثيراً عن مدينة الأبيض عاصمة الثورة المهدية الأولي . شهد ذلك الشهر توارد أنباء ذلك الانتصار الخالد الي أصقاع أوربا القصية فخيمت تلك الكارثة بوقعها علي الجزيرة البريطانية تماماً كم خيم عليها شتاء نوفمبر بحزنه ومساءاته القاتمة .
لم تكن وقائع شيكان حدثاً معزولاً عما حوله من مسرح الأحداث في عالم القرن التاسع عشر كما يتصور البعض .. بل كانت حدثاً مهماً ارتجت له صحافة العالم في زمن شهد هيمنة استعمارية مطلقة من شمال الكرة الارضيّة علي جنوبها بشعوبه المستضعفة التي تقلب بها ذلك الزمان من هزيمة لأخرى . وعليه سنحاول في هذه الدراسة المصغرة تبيان أصداء وقائع شيكان علي صحف بريطانيا وغيرها من الصحف الأوربية الآخري بما توفر لدينا من ارشيف إحتوي فيما إحتوي علي تفاصيل موغلة في الدقة عن الأثر الذي ترتب علي نتائج تلك المعركة .
من المهم هنا الإشارة الي مدخل مفتاحي يسهل من الولوج الي تفهم طبيعة تلك الاصداء . و نعني هنا تحديداً ما أورده المؤرخ البريطاني المعاصر فيرغس نكول صاحب " مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون " من اهتمام صحفي بريطاني بالحملة في مراحل تجهيزها المبكرة . فعلي الرغم من أن جيش هكس أُرسل الي السودان بإسم الخديوي إلا ان كل شئ تم تحت علم ومساندة بريطانيا التي كانت هي الحاكم الفعلي لمصر الخديوي نفسها . و ما كان لجيش جرّار يتكون من عدد يناهز ال 15 الف مقاتل كهذا ان يُرسل من دون توفير التغطية الإعلامية الفعالة لوقائع تحركاته. تلك ادبيات إستعمارية عريقة ظلت بريطانيا تتبعها لسرقة الانتصارات ونسبها لمجد الامبراطورية حينما تسنح الفرصة وتكتمل صياغة المشهد . لذلك صحب ذلك الجيش كأذرع إعلامية .. كل من فرانك باور مراسل جريدة ( التايمز اللندنية)..وفرانك فيزتلي مراسل جريدة( The Graphic ) ..كما تواجد ايضا الصحفي الأيرلندي المثير للجدل إدموند اودنوفن المحسوب علي التيار القومي الأيرلندي .. كمراسل حربي لصحيفة Daily News . وإمعاناً في إجلاء الغبار عن هوس البريطانيين وولعهم القديم في تدوين إنتصاراتهم فيما وراء البحار أشار نيكول الي أن بعض الرتب العليا من الضباط البريطانيين بحملة هكس كانوا يتقاضون ما يقارب ال 700 جنيهاً استرلينياً مقابل كتابة تقارير صحفية دورية للصحف البريطانية والتي دفعها تلهفها لنشر تفاصيل سير الحملة لبذل تلك الأموال بأكف منبسطة .. ( انظر .. نيكول : مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ).
ولكن بالعودة للأخبار التي تصدرت الصحافة البريطانية عن حملة هكس نجد أن الملامح النهائية للجيش الغازي قد اكتملت مع مراحل تجميعه الأولي بالنيل الأبيض . وكشأن كل البدايات التي تنضح بالأماني العذبة نجد ان تناول صحف بريطانيا لتلك التفاصيل قد إحتوي علي تفاؤل مُتصاعد وثقة حديدية في سحق الثورة المهدية وذلك علي نحو ما ورد بصحيفة " شيفيلد ديلي تليغراف" بتاريخ 14 سبتمبر 1883 من تقرير أُختتم بلهجة جازمة مؤكدة جاء فيه : " لا يوجد أدني شك من نجاح حملة الجنرال هكس . إن هيمنة المهدي علي الأحوال ما زالت في تناقص كبير " .. ولكن تلك اللهجة المتفائلة سرعان ما تراجعت مع خروج الجيش الغازي من رحاب منطقة النيل الأبيض وتقدمه تجاه سهول كردفان الفسيحة .. فلقي ما لقي من مقاومة ضارية بأسلوب الحرب الشعبية بكل مكوناتها البشرية والطبيعية و الذي أفلحت الثورة المهدية في إستغلاله كسلاح حاسم في مواجهة الغزاة مما أثر سلباً علي معنويات رجال الحملة . وفي ذلك الشأن نشرت صحيفة " وسترن ديلي ميركري " .. " The Western Daily Mercury " في أحد اعدادها الصادرة بنوفمبر 1883 .. نشرت إفادات الميجور إيفانز ضابط استخبارات هكس حين قال : " لقد بارحنا الخرطوم في 9 سبتمبر وتقدمنا علي الضفة الغربية للنيل فوصلنا الدويم في غضون أربعة ايام . لم نتوقف عن التقدم للأمام منذ ذلك الوقت .. الحر هنا قائظ بما يكفي . كبدنا ذلك خسارة ثلاثين من رجالنا بعد أن أهلكهم العطش والإنهاك وكذلك تتساقطت جمالنا بنفس الطريقة . نحن نتقدم الأن لثمانية ساعات متواصلة يومياً لمدة 16 يوم علي التوالي . وصلنا إحدي القري التي كانت تشتمل علي عشرين كوخاً فقررنا أن نتوقف هنا ليستريح رجالنا و دوابنا لبعض الوقت .. الماء هنا ردئ للغاية والعدو الذين تصلنا أنباء كثيرة عن حشوده الكبيرة لا يبعد عنا سوي ثلاثين ميلاً اما الطريق خلفنا فهو مقفل تماماً " .. لم يكن تقرير ايفانز المقتضب سوي تأكيد لحذاقة اُسلوب إدارة الامام المهدي لفن الحرب الشعبية لأن ما قاله مسئول مخابرات جيش هكس تطابقت تفاصيله مع توجيهات المهدي لأمرائه علي أحسن ما يتمناه اي قائد من التطابق .. ففي سبتمبر 1883 كتب المهدي للامير احمد ود جفون :" وانه بمجرد وصول جوابي هذا إليكم انتم وجميع من معكم من الانصار انضموا مع بعضكم البعض في جهة من الجهات وأخلوا لهم الطريق كي يجدوه سهلاً خالياً ، وأكمنوا لهم بالطلائع الشافية ، وبعد تحققكم بذهابهم و مرورهم من نواحيكم ، فأمسكوا قفاهم واتبعوهم من ورائهم فيصيرون في وسطنا" .. الي ان يقول : " الحرب خدعة، فشمروا عن ساعد الجد وقوموا بواجب ما أمرتم به ولا تغفلوا عن الطلائع دائما قبل وصولهم بنواحيكم و مرورهم و لا تقطعوا من الإفادة من الأخبار المحققة" ..
وعلي الرغم من شُح الأنباء الواردة عن حملة هكس لصحافة بريطانيا بعد توغل الجيش الغازي في صحاري كردفان الا أن تلك الصحف لم تكف عن نشر أخبار غير مؤكدة لانتصارات مزعومة حققها هكس في اثناء تقدمه نحو مدينة الأبيض .. ونالت صحيفة " ليدز ميركري" بتوجهاتها الإمبريالية المعروفة النصيب الأوفر من تلك الأنباء المغلوطة .
لم تدم تلك الأمنيات كثيراً فسرعان ما تأكدت أنباء انتصار الجيش المهدوي علي هكس بمعركة شيكان الحاسمة وطارت أصداؤها للأقاصي البعيدة فبدأت الصحف البريطانية تبحث عن تفاصيل ما حقيقة ما جري بأسلوب اكثر واقعية .. فنشرت صحيفة " فروم تايمز – Frome Times " والتي تصدر بنواحي جنوب غرب انجلترا .. تقريراً دقيقاً عن تفاصيل موقعة شيكان أخذ موقعاً مميزاً بعددها الصادر في يوم الأربعاء 19 يناير 1884 . وفيه نسبت الصحيفة نسختها من الرواية لأحد الأسري من رجال هكس الذين تمكنوا من الهرب لاحقاً من مدينة الأبيض وجاء في ذلك التقرير : " في 4 نوفمبر تقدمت قواتنا نحو كازقيل وبعد مسيرة متواصلة استغرقت 4 ساعات تفاجأنا بهجوم ماحق من جيش العدو الذي اصلانا ناراً حامية . علي الرغم معاناتنا السيئة من العطش الا اننا حاولنا الحفاظ علي مواقعنا . في 5 نوفمبر توقف القتال قليلاً وكان علينا التقدم لإدراك الآبار وموارد المياه . بعد نصف ساعة من الزحف تفاجأنا بالثوار الذين اخذوا مواقعهم مختبئين خلف غابة شيكان ففتحوا فينا نيران بنادقهم وأحاطوا بِنَا من كل جانب . حاولنا الرد بقوة ولكن هجوم السودانيين اشتد علينا بعد ذلك و أُبيدت الحملة ولَم يتبق منها علي قيد الحياة سوي 200 من الجنود المصريين وبعض من الرقيق ممن جُرحوا اثناء المعركة " ..
ولَم تكن تلك الأرقام التي أوردتها "Frome Times" بأي قدر من الاختلاف مما كان متوفراً لدي الدوائر الرسمية البريطانية.. فعلي المستوي الرسمي تلقي رئيس الورزاء البريطاني غلادستون فيما بعد منتصف نوفمبر 1883 بتمام الساعة الثانية ظهرا بتوقيت غرينتش .. تلقي تقريراً تلغرافياً مفصلاً من حاكم عام السودان بالانابة آنذاك .. الجنرال البريطاني هنري دي كوتلوغون . اشتمل التقرير علي تفاصيل إبادة حملة الجنرال وليم هكس بشيكان التي لم ينج منها بحسب التقرير سوي 200 رجل . وعلي الرغم من أن تقرير كوتلوغون لم يكن واضحاً بخصوص مصير من تبقي من رجال هكس الا ان صحيفة دبلن ديلي إكسبرس "Dublin Daily Express" .. (عدد 26 ديسمبر 1883) .. جزمت في تقرير موجز عن نتائج معركة شيكان بأن الامام المهدي قد أوصي قواته بالحفاظ علي حياة الاسري بما فيهم عدد من الأوربيين الذين كان فيتزلي المراسل الحربي لصحيفة (The Graphic) اللندنية الذائعة الصيت .. في مقدمتهم . ويتفق ذلك تماماً مع ما أوردته صحيفة " شيفيلد ديلي تليغراف" بعددها الصادر في 19 ديسمبر 1883 والذي اشتمل علي تحقيق بعنوان .. ( نهاية هكس باشا ، قصة يرويها احد الناجين ) والذي جاء فيه : " أمر المهدي أنصاره بعدم الإجهاز علي أي جريح من قوات هكس . وجه المهدي أيضاً بأن لا يتعرض احد بسوء للصحفي فيتزلي " ..
وبالعودة لسلسلة تقارير كوتلوغون المتتابعة للإدارة البريطانية عن احوال السودان نجد ان من اهم تقاريره ذلك الذي وجهه لغلادستون موصياً فيه بأن صعوبة السيطرة علي الأوضاع بالسودان في ظل انتصارات الثورة المهدية الاخيرة تقتضي اتخاذ قرار واقعي بإنسحاب الادارة الاستعمارية للسودان بأكملها الي مدينة بربر وما ورائها .. والتقطت القفاز صحف بريطانية كثيرة فدعت للانسحاب من السودان وعدم التورط بإرسال المزيد من الجنرالات لأتون حروبه المستعرة . كما دعت للاهتمام بتأمين حدود مصر التي كانت كما سلف ذكره تحت ما يشبه الوصاية البريطانية الكاملة آنذاك .
لم تهدأ مصانع القرار الرسمية البريطانية والتي تمدد فيها القلق من نتائج انتصارات الثورة المهدية في شيكان حتي بلغ أشده في 13 ديسمبر 1883 .. اي بعد ما يقارب الشهر من واقعة شيكان .. حينما كتب اللورد بارينغ .. مسئول ملف سلاح البحرية بحكومة غلادستون الثانية والشهير بلقب " لورد اوف نورث بروك " .. كتب لصديقه اللورد ريبون معلقاً علي انتصار السودانيين علي حملة هكس في شيكان : " إن ما يحدث في السودان هو أمر في غاية الخطورة بحسبان أن هزيمة هكس ستجلب لنا نحن ( البريطانيين ) .. ما يكفي من إشانة سمعة " ..
وفي ذات المعني تحدثت صحيفة فرنسية ذائعة الصيت كصحيفة ( Liberté) عن هزيمة هكس الساحقة بشيكان بلهجة تدعو فيها بريطانيا للاعتراف بهزائمها في السودان بدلاً من الهروب من تلك الحقيقة المؤلمة .. ويتمثل ذلك فيما جاء بالصحيفة نصاً : " ان المسئولية الاخلاقية لهذه الكارثة تنسحب علي بريطانيا العظمي وحدها لأن جنرالات إنجلترا كانوا تحت تأثير اوهام مزدوجة .. سوء تقدير لقوة المهدي و تضخيم متوهم لدورهم في إدارة قوات الخديوي " .. ( صحيفة Liberté الباريسية ، 23 نوفمبر 1883 ).
وتناولت صحيفة Le Rappel الفرنسية معركة شيكان ونتائجها بعد أن وجهت انتقادات ساخرة لمحاولة الانجليز للتملص من هزائمهم علي يد قوات الثورة المهدية .. حيث قالت الصحيفة : " إن الصحافة الانجليزية تحاول جاهدة إيهامنا بأن تلك الهزيمة لا تعنيهم في شئ وأنها تخص قوات الخديوي وقادته العسكريين وحدهم . إننا جميعاً نعلم جيداً أن الإطار العام للحملة العسكرية كان انجليزياً صرفاً وأن اسم الجنرال هكس وحده كان اصدق دليل علي جنسيته البريطانية التي لا جدال فيها . إن التعلل بأن جيش المهدي كان تعداده 300 الف مقاتل ما هو إلا تهويل مقصود الغرض منه حفظ ما تبقي من ماء وجه البريطانيين " .. ولَم تمر لسعات صحافة فرنسا لبريطانيا من خلال الاحتفاء بإنتصار الثورة المهدية في شيكان من دون ان تثير ما هو متوقع من المرارات في صفحات صحافة بريطانيا .. فكتبت صحيفة " لندن ايفنينغ ستاندرد " .. "London Evening Standard" بعددها الصادر بصبيحة السبت 24 نوفمبر 1883 .. فيما يمكن اعتباره اعترافاً إنجليزياً مستتراً بما احدثته شيكان من جرح أدمي كبرياء بريطانيا .. فأوردت الصحيفة : " إن الأثر العظيم الذي احدثته إبادة حملة الجنرال هكس بالسودان لم يكن مقترناً بأي قدر من التعاطف معنا في باريس . لقد اجتمعت الصحف التي لا تفضل سيطرتنا الثنائية مع المصريين علي احوال السودان مع تلك الصحف التي تدفعها الكراهية الصرفة لإنجلترا .. اجتمعوا جميعاً علي الابتهاج بتلك الضربة القاصمة التي نالت من هيبة وكبرياء بريطانيا ". و في ذات الإطار عنونت الصحيفة بنفس العدد تحقيقاً مطولاً عن تفاصيل هزيمة هكس بعنوان " الكارثة في السودان " او " The disaster in Sudan " ذكرت فيه ان الجنرال هكس تم تضليله بواسطة احد ادلاء صحراء كردفان والذي لم يكن في حقيقته سوي احد عملاء المهدي فقاد الجيش بأكمله الي مسار شح فيه الماء ولوث ما تبقي من مصادره .. وترتب علي ذلك إبادة حملة هكس بكردفان بعد معركة اشترك فيها جيش جرّار من رجال الثورة المهدية . وتزعم الصحيفة انه لم يتبق آنذاك أي من البريطانيين علي قيد الحياة في السودان سوي حاكم عام السودان بالانابة الجنرال كوتلوغون والمراسل الحربي المرافق لحملة هكس الصحفي فرانك باور .
وإنضمت صحف نمساوية بارزة لحملة إنتقادات الصحف الفرنسية للإعلام البريطاني وسياسته الرامية للتملص من هزيمتهم في شيكان فكتبت صحيفة Neue Freie Presse بتاريخ ديسمبر 1883 : " إن في مقدور بريطانيا أن تزعم لآلاف المرات ان لا شأن لها بما يحدث في السودان . ولكن القضية الأن لم تعد قضية السودان لوحده بقدر ما هي قضية مصر . لقد هزت الحركة المهدية موقع الخديوي ولو لم يتم تقويته فمن المتوقع ان تنتشر تلك الموجة لتشمل كل أنحاء العالم الاسلامي ". اما صحيفة Tagblatt التي كانت تصدر من فيينا فقد استبقت الأحداث بالحديث عن قراءتها الخاصة لنتائج موقعة شيكان حين قالت : " إن عدم منع المهدي من التقدم بقواته نحو مصر سيؤدي لتغييرات بالغة بكل العلاقات الدولية في القارة الأوربية " ..
وإنتحت صحيفة بريطانية مهمة كصحيفة " Reading Mercury " منحاً مشابهاً لصحف فيينا في تناولها لإنتصار الثورة المهدية بشيكان من حيث خطورة الأثر الذي ستحدثه نتائج تلك المعركة الحاسمة علي قبضة بريطانيا المحكمة فيما يختص بمستعمراتها بالعالم الاسلامي .. وجاء بالصحيفة بهذا الشأن تحديداً : " إن هنالك ثمة مخاوف جدية ستترتب علي انتصار المهدي بما يُتوقع ان يتلوه من انعكاسات علي العالم الاسلامي . انه من الممكن جداً ان يكون نجاح الثورة المهدية بمثابة رسالة إيجابية تحرض المسلمين علي القيام بإنتفاضات مماثلة في المنطقة العربية وبلاد فارس وكل مناطق المسلمين بالهند " .. ( صحيفة Reading Mercury .. عدد بتاريخ السبت 1 ديسمبر 1883 ) .
وكتب الصحفي والبرلماني الأيرلندي اوكيلي الذي عرف عنه تعاطفاً كبيراً مع الثورة المهدية .. كتب بصحيفة " The Western Morning News " الانجليزية الصادرة بصبيحة الخميس 22 يناير 1885 .. عن تفاصيل مشاركة الامام المهدي مقاتلاً بسيفه في معركة شيكان و زعم بأنه جُرح في المعركة مدللاً بذلك علي بسالته كقائد . وجزم اوكيلي بأن المهدي لم يكن ليخبئ نفسه في المعارك بل كان يقاتل وسط جنوده
( He takes part in all battles and does not spare his own person ) .
ويصف اوكيلي الامام المهدي في ذات المقال بأنه قائد علي مستوي متعاظم من الذكاء ويتسم بقدرات شخصية قيادية خارقة لا يمكن ان يتسرب اليها شك " . غير أن الصحافة البريطانية لم تغفل أيضاً عن تقريظ جنرال بريطانيا الذي ابتلعته غابة شيكان بما يليق من المدح فتعرضت صحيفة "شيفلد ديلي تليغراف " في أعقاب انقضاء المعركة لتفاصيل مقتله بمقال مفصل ذكرت فيه أن الجنرال هكس كان قد قاتل بشجاعة الأسود حتي نقطة النهاية وأفرغ محتويات مسدسه لثلاثة مرات قبل ان يقاتل بالسيف ثم يُقتل بعد ذاك فكان اخر من لقي حتفه من رجال حملته . ( شيفيلد ديلي تليغراف ، 19 ديسمبر 1883 )
واتجهت صحيفة أسكتلندية معروفة كصحيفة " The Dundee Courier And Argus " لتخصيص صفحتها الأولي من عددها الصادر بصباح الجمعة 23 نوفمبر 1883 لتحقيق مطول عن تفاصيل معركة شيكان تحت عنوان لم يخلو من إثارة بيّنة .. ( الكارثة المفزعة في السودان ، هزيمة هكس باشا وإبادة جيشه ، تفاصيل المذبحة التي تعرضت لها قوات بلغ تعدادها 10 الف رجل ) .. وأشارت الصحيفة الي أن المربع العسكري الذي شكل هكس قواته عليه قد تعرض للكسر بواسطة قوات المهدي بعد 3 ايام من المناوشات و المعارك المتصلة انتهت بإبادة جيشه في شيكان . كما نقلت عن احد شهود العيان إفادات تشير الي انه استطاع ان يحصي 150 من جرحي الحملة المبادة أبقي الانصار علي حياتهم بما في ذلك الصحفي فرانك باور . وتحدثت الصحيفة عما وصفته بالشلل التام الذي خيم علي حكومة غلادستون بفعل هذه الكارثة ولكنها توقعت ان يتم اتخاذ تدابير رسمية معينة بمساء يوم 23 نوفمبر 1883 حيال ما حدث . وحذرت الصحيفة بلهجة صارمة من وجود دلائل تشير الي إمكانية سقوط ميناء سواكن في قبضة القبائل التي أعلنت ولائها للثورة المهدية بشرق السودان في إشارة منها لعمليات الامير عثمان دقنة والتي أدت الي مقتل القائد الانجليزي مونكريف في أعقاب موقعة شيكان مباشرة . وواصلت الصحيفة تحذيراتها المرسلة فتطرقت لتقدم قوات الثورة المهدية نحو الخرطوم الذي بات وشيكاً كما تحدثت بتفصيل عن ان مصر نفسها لم تعد بمأمن من تقدم قوات الثورة السودانية ونبهت الي أن قوات الجنرال البريطاني "إيفلين وود" المتواجدة بجنوب مصر لم تكن سوي قوات ضئيلة العدد قياساً بما يحدث في المنطقة . و في ختام تحقيقها المفصل اتجهت "The Dundee" .. للهجة غلب عليها التشاؤم بخصوص فرص بريطانيا لإعادة الامور الي ما كانت عليه حين قالت نصاً .. : " في واقع الحال ، ان أسراب المقاتلين الضخمة التي تتوفر تحت قيادة المهدي وما يتوقع لأعدادها من تزايد ستقلل كثيراً من توفر العوامل المساعدة لمقاومتنا لتحركاته الناجحة " ..
ويبدو ان مخاوف " The Dundee" التي جاهرت بها كان لها ما بعدها .. فإنبرت صحيفة لندنية متفردة كصحيفة " London Daily News" .. لنشر تحليل مستفيض حول الانتصارات المتتابعة التي حققتها الثورة المهدية تضمن احداث حصار وتحرير مدينة الابيض التي سبقت موقعة شيكان .. وتعرضت الصحيفة للوحدة الوطنية التي حققتها المهدية بين قبائل السودان المختلفة قائلة : " بالاضافة للثلاثين او الأربعين الف من رجال المهدي الخلُص الذين يعسكرون معه بالأبيض . أنه من الممكن القول بأن المهدي يحظي بالمساندة والتعاون الحيوي مما يقارب الثمانين قبيلة من قبائل السودان والتي تتمدد في أغلبية أراضي هذا البلد الشاسع من حدود صحراء بيوضة الي أقاصي المناطق الاستوائية و بمقدار مماثل يصعب تحديده لأقاصي حدود دارفور الغربية . هؤلاء الانصار الذين تتراوح أعدادهم ما بين ال 200 الي 300 ألف مقاتل يختلفون كثيراً في البنيان الجسماني والمزاج العام عن جنود احمد عرابي . في الغالب الاعم تتشابه سحناتهم بدرجة وثيقة مع سحنات الهنود الحمر الأمريكيين وفي كثير من الأحوال تختلط دمائهم بالدم الزنجي . ويمكن تعميم هذه الصفة علي القبائل العربية المتاخمة للمناطق الإستوائية " ..
وقبل أن يمر شهر علي هزيمة هكس بشيكان نشرت صحيفة " مونماوث شراين مرلين " .. " Monmouthshire Merlin" التي تصدر من ويلز تحقيقاً بعنوان " رأي احمد عرابي في المهدي " حيث أشارت في تحقيقها المؤرخ بتاريخ الجمعة 30 نوفمبر 1883 .. الي أن انتصار الثورة المهدية الأخير علي قوات هكس لم يكن مفاجئاً بالنسبة لعرابي الذي كان يتحدث عن تعاظم نفوذ المهدي بصورة مكررة وقال بما يكفي من الصراحة أن علي إنجلترا الآن ان تُعد نفسها لزحف قواته التي ستعسكر يوماً ما بالقرب من القاهرة . وذكرت الصحيفة أن عرابي منذ قدومه الي منفاه بجزيرة سريلانكا ظل ثابتاً علي رأيه بحتمية انتصار المهدي لأنه- بعكس الأوربيين – يدرك أن روح الشعوب هناك تتوق بطبيعتها للتخلص عن ما أسماه ب " الاستعمار المسيحي" شأنها شأن المسلمين في كل مكان .
وعلي ذات الايقاع مضت تصريحات عرابي اللاحقة عن الثورة المهدية بلهجة متصاعدة من التأييد حين نقلت صحيفة " يوركشاير بوست" الانجليزية الصادرة في يوم الاثنين 4 فبراير 1884 تصريحاته التي وصف فيها الامام المهدي بالزعيم الذي يمتلك مقدرات هائلة تدعمها شخصية قوية متماسكة مما مكنه من أن يحشد خلفه ما لا يقل عن 150 الف من رجال شعبه الذين جُبلت فطرتهم علي القتال ".. ويبدو أن احمد عرابي باشا لم يُخرج كل ما في صدره من إنحياز للثورة المهدية الا عندما انتصرت انتصاراً حاسماً آخراً علي بريطانيا بتحرير الخرطوم ومقتل غردون الذي تزامن مع فشل حملة إنقاذه البريطانية بقيادة اللورد ولزلي .. وفي ذلك اوردت صحيفة " وسترن ديلي برس " البريطانية بعضاً من نص رسالة عرابي لليدي آن بلنت والتي عبر فيها بوضوح عن مشاعره الحقيقية تجاه الثورة في السودان وقد جاء ذلك في عدد الصحيفة المؤرخ ب 2 مارس 1885 : " لم تكسب بريطانيا شيئا من محاولتها غزو السودان .. لقد خسرت كل شئ .. خسرت اسمها وسمعتها و خسرت كل المسلمين . لقد فقدت بريطانيا غردون وستيوارت وهكس و أيرل وكم وكم غيرهم من الضباط البريطانيين . كما فقدت ايضا تعاطف كل القلوب بسبب حربها علي ثورة التحرر في السودان .إن السودانيين الشجعان أخذوا بالثأر لاخوانهم المصريين وحموا بلادهم ضد الغزاة ومنهم رجال يفضلون أن يتجرّعوا كأس الموت علي أن يروا مستعمرا دخيلاً عليهم داخل حدودهم . لقد بايع الشعب السوداني المهدي بالملايين علي الموت من اجل الحرية و كلما ازداد العدوان الانجليزي عليهم كلما ازدادت قوتهم "..
صفوة القول أنه بالإستناد علي ما تقدم من وثائق يمكن الخلوص الي أن معركة شيكان وما تلاها من نتائج وتداعيات قد أخذت حيزاً واسعاً من الاهتمام الصحفي البريطاني والعالمي ونالت كمثيلاتها من النزالات العسكرية الفاصلة في عالم القرن التاسع عشر قدراً متقدماً من التحليل والتمحيص في تفاصيلها بما يليق بما أحدثته من تغيير قلب موازين القوي العالمية – و لو الي حين – في عالم تناهشته المطامع الإستعمارية التي لا تلقي بالاً لإرادات الشعوب .. فكانت شيكان انتصاراً سودانياً شعبياً باهراً جري مده في عكس اتجاه جريان النهر الامبريالي العالمي أنذاك .. وكان من أمره ما كان.
المصادر :
1) ارشيف الصحافة البريطانية ..
2) فيرغس نيكول : جلادستون وغردون وحروب السودان ، Publisher : Pen &Sword ، Souh Yorkshire، نسخة الكترونية ، نسخة العام 2013 .
3) فيرغس نيكول : مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ، دار سوتون Sutton للنشر ، جلوستارشاير ، المملكة المتحدة 2004.
4) منشور الامام المهدي للامير احمد ود جفون : الاثار الكاملة للامام المهدي لابوسليم ، المجلد الاول، دار جامعة الخرطوم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.