نبيل أديب عبدالله المحامى ……إعتباراً من اليوم الحادى عشر من هذا الشهر، أصبح إرتداء النقاب فى الأماكن العامة فى فرنسا مخالف للقانون وموجب للعقاب، وكانت قراءة ذلك القانون عند إجازته فى العام الماضىى قد أعادت إلى ذهنى مسألة بنطال لبنى، وكيف لا تفعل ذلك وفرنسا هى البلد الذى منح لبنى حق العيش فيه، دفاعاً عن حقها فى أن تقرر لنفسها ما ترتديه. لفتت لبنى نظر العالم، حين قرر شرطى ضمن قوة تابعة لشرطة أمن المجتمع إقتحمت مقهى كنات لبنى تحضر حفلاً فيه، أن البنطال الذى كانت ترتديه لبنى مخالف لأحكام المادة 152 من القانون الجنائى، لأنه مخالف لأحكام الدين الذى تعتنقه لبنى، وأيده فى ذلك القاضى الذى نظر الدعوى. كانت وجهة نظر لبنى آنذاك هى أن ما كانت ترتديه فى ذلك اليوم، هو متفق مع تعاليم دينها، بحسب فهمها هى لدينها، وإن تفسير النصوص الدينية هى مسئولية الفرد الذى يعتنق الدين المعني، وهو تفسير يخضع فيه لحساب ربه، وليس القاضى، دعك من الشرطى. لقد دافعت عن لبنى ومثلتها لدى القضاء وما زلت أمثلها، إيماناً منى ليس فقط بحقها فى أن تفسر لنفسها نصوص دينها، وتتحمل بذلك مسئوليتها الدينية، بل فى الأساس إيماناً منى بأن مجال تدخل القانون فى أزياء الناس يضيق تماماً عن مجال تدخل الدين فى ذلك، ففى حين أن للدين أن يحدد للناس مظهرهم، فإن مخالفة الناس لتعاليم دينهم فى هذا الخصوص، هى مسألة تعالج فى إطار مختلف عن تدخل القانون فى أزياء الناس، والذى يجب أن يقف عند حد منع العرى، وإظهار العورة فى الأماكن العامة . عندما قرأت مشروع القانون الفرنسي فى العام الماضى سألت نفسي، وماذا عن حق لبنى فى أن تقرر لنفسها ما يقول دينها فى هذا الصدد ؟ هل بقبولها للعيش فى فرنسا تخلت عن ذلك الحق ؟ وماهو موقفى لو أعادت موكلتي التفكير فى المسألة، وقررت أن دينها يلزمها بإرتداء النقاب، ألا يتوجب على أن أدافع عن حقها فى أن تقررذلك لنفسها، كما دافعت عنها من قبل فى تجربتها السودانية؟ عندما بدأ ساركوزى حملته التى قادت لإجازة هذا القانون ذكر ما يلي : ” فى بلدنا لا يمكن لنا أن نقبل بسجن النساء خلف ستار بحجبهن عن الحياة الإجتماعية، ويمحو ذاتيتهن بذلك الشكل ” وعند تقديم مشروع القانون للبرلمان ذكرت اللجنة البرلمانية التى تكونت خصيصا لذلك ” إن إرتداء النقاب لا يمكن قبوله فى أى مكان عام ضماناً لكرامة الفرد وللمساواة بين الجنسين ” ويقول المدافعون عن القانون أنه لا يميز ضد المسلمين، لأنه يمنع الجميع من أن يغطوا وجوههم فى الأماكن العامة. هذا صحيح من حيث أن القانون لا يذكر المسلمين ولا النساء، ولكن نصوص القانون بما تتضمنه من إستثناءات مثل إجازة ما يرتديه ركاب الدرجات البخارية حماية لرؤوسهم، أو إرتداء الكمامات لأسباب صحية، أو لممارسة رياضة المبارزة، أو التزلج على الجليد، بل والتنكر فى المهرجانات العامة، لا تترك سوى طائفة واحدة يمكن أن تتأثر بذلك المنع، وهى طائفة من المسلمين. فإذا كان صحيحاً أن القانون لا يميز ضد المسلمين بشكل عام، لأن الأغلبية الساحقة للمسلمات لا ترتدى النقاب، إلا أنه يميز ضد طائفة من المسلمين تعتقد أن الدين يفرض النقاب على المرأة، ويستوى أن يكون ذلك التفسير الذى يقولون به صحيحاً، أم خطأ، لأن من حقهم إعتناق ذلك الرأى، وليس للدولة أن تمنعهم من التعبير عن ما يعتقدون، طالما أنهم لا يعتدون على الآخرين . قد يكون ما يقوله المدافعون عن القانون أقرب لموقفى، من حيث إعتناقى لما يدعون إليه من تحرير المرأة ومساواتها مع الرجل، ولكن دور القانون فى هذا الصدد يجب أن يقف عند منع إجبار المرأة على إرتداء النقاب، أما لو رغبت هى بإختيارها الحر فى ذلك، فليس للقانون أن يمنعها من أن تفعل ما ترى أنه يحقق حريتها وذاتيتها . ما رأيناه بالنسبة للقانون السوداني ينطبق على القانون الفرنسي، فتدخل القانون بالنسبة للأزياء، لا يبرره نبل الغرض، ولا فرض قيم المشرع على الناس، وإنما منع العرى وإبراز العورة، لأن ذلك ينطوى على إعتداء على حق الآخرين فى حياة عامة خالية من الفحش فى السلوك. ولذلك فإننى أعتقد أن نفس الذهنية الرسالية التى أملت على المشرع السوداني التدخل فى زى المرأة عن طريق نصوص غامضة، هى التى أملت على المشرع الفرنسي أن يفعل ذلك أيضا بنصوص غامضة، وقد لجأ الإثنان للغموض لتفادى الإتهام بالتمييز . ليس للمشرع أن يجعل من نفسه مصمماً لأزياء الأمة، فيصمم لهم ما يرتدون حتى ولو كان ذلك المشرع فى الأمة التى أنجبت كرستيان ديور، وبيير كاردان، لأن من حق الأفراد إبراز ذاتيتهم فى إختيار ملابسهم حتى ولو عبر ذلك عن فساد الذوق. إننا حين نرفض القانون الفرنسى، ندافع عن نفس الحق الذى قادنا لرفض القانون السودانى، وهو حق المرأة فى الحرية والكرامة، والذى لا يتحقق إلا برفع الوصاية عنها مهما كانت مبررات تلك الوصاية.