كلَّما ضاقتِ الدنيا علي الناس، وساءت معيشتُهم، وأطبقت مصائب الحياة عليهم من كل جانب وتلفَّتوا إلي حكومتِهم يرجُون حلَّها وتدبيرَها، (جَبَدت) الحكومة إحدي (فرمالات الخَم) وجدعتها لهم كما يجدعُ الآكلُ العظمَ المكدود إلي كلبٍ باسطٍ ذراعيه بالوصيد يتلمّظُ ويتطلّع إلي سيِّدِه وهو يأكل..أي تلجأ الحكومة إلي (خَم الشّعب وإلهائه بالعظام المكدودة).. والخم بالدارجة السودانية هو الإستهبال والإستحمار والإحتيال والسفلقة والبلبصة واللَّولَوة (وتطِرطِش) الكلام والأمور..ومن كثرة ما جرَّبت الحكومة سياسة (الخَم) هذه وطبَّقتها ونجحت فيها أصبحت ذاتَ خبرةٍ وتخصُّص ومعرفة لا يضارعُها فيها أحد..وأصبح عندها لكل مدينةٍ وحالٍ نوع، ولكل زنقةٍ وحادث صِنفٌ يناسبُه من فرمالات الخَم والإستهبال.. فحينما يزور مسؤولٌ من الحكومة -الرئيس مثلاً- مدينةً كپورتسودان فإن أقربَ ما يدغدغ به أهلَ پورتسودان ويخمَّهم به هو حديثُ الماء..ثم الماء ثم الماء..ولقد رأيتُ سيدي الرئيس بالفعل في زيارة مشهودةٍ له إلي تلك المدينة (العطشي) وهو يدغدغُ الجماهير (المحشودة) إليه بذات الطريقة المعروفة، وقال لهم إنه -وحكومته- سيُغرقون قريباً جداً مدينة پورتسودان وأهلَها بالماء حتي لا يُري منها وفيها إلا الماء.. ولكنه (إشترط) علي (الأدروبات) هذه المرة -ضاحكاً ومداعباً- أن يتركوا (سَف التُّمباك) إن هم أرادوا تحقُّق ذلك الحُلم..ذات الخم بذات الوسيلة وذات النتيجة الباهرة المتوقَّعة.. فالسودانيون طيبون وصدِّيقون وخاصةً أهل پورتسودان..ولن يتخيلوا أبداً أن ما يقال لهم من (مسؤولي الحكومة) هو (محضُ خَم).. فصفّق له الناس عندها وإبتهجوا وضحِكوا وعرَضوا وإستعرضوا وأخرج كلُّ واحدٍ منهم في نهاية العَرضة (حُقّة تُمباكِه) ووضع سفَّةً باذخةً إبتهاجاً وإنتشاءً وفرحاً بما سمِع من حديث الماء من السيد الرئيس !! وأما في مدينةٍ كأم ضواً بان أو أبو قرون أو طابت الشيخ عبد المحمود أو زريبة الشيخ عبد الرحيم البرعي فإنَّ (فرمالة الخَم) معروفة (ومضمونة ومبرشمة) ألا وهي كلامُ الدين والشريعة وتطبيق نهج الله، إذ أهلُ تلك البلاد متديِّنون طيبون وصوفيةٌ صدّيقون..وما علي المسؤول الحكومي -وهو يخاطبهم- إلا أن (يرمي ولو علي الماشي) كلام الدين والشريعة علي مسامع الجماهير الكالحة الشاحبة (المتدافسة) في اللواري والبصات، والمتسلقة رؤوس الأشجار وأعالي الحيَطان والدّكك والمباني للإستماع إليه، فيستحيلون من فورِهم ذاك إلي حناجرَ مدوِّية، وأوداج منفوخة، وشفاهٍ زابدةٍ راجفةٍ متشقّقة من شدة التهليل والتكبير.. وفوراً ينسَوْن شظف معيشتهم وعنتَ دنياهم وقسوة ظروفِهم ويهتفون بحياة الرئيس، ويدعون له بالصحة والثبات والتسديد وطول العُمُر ليحقق لهم تطبيقَ شرعِ الله.. وهو كل المطلوب من هؤلاء (الفُقَرا) الطيبين !! وحتي شهر أكتوبر من العام الماضي 2017م كانت (فرمالة الخَم) السهلة المصدوقة والنافعة لكلِّ حال، والجارية علي لسان كلِّ مسؤولٍ حكوميٍ لتبرير إنهيار الإقتصاد والأخلاق والخدمات وشيوع الفشل والفساد والإفساد هي (العقوبات الأمريكية) ولاشئ غير العقوبات..ولكن لقد أُسقط في يدِ الحكومة بعد أكتوبر عندما أتمّت الإدارة الأمريكية رفعَ العقوبات قولاً وفعلاً إذ -وبسرعةٍ شديدة ومتزامنة- إنتهت صلاحية هذه (الفرمالة) ولم يعُد ممكناً ولا مقبولاً أن يلوكها أحدُ المسؤولين ولا أن يستخدمها (لِخَمِّ أحد)!!.. ومن سخريات الزمان عليهم وعلينا أن الدولار بدأ في هذه المدة بالذات يوالي الضربات القاضيات علي الجنيه السوداني وبلا رحمة.. وتهاوي الإقتصاد السوداني وبرك تماماً، وتمنَّي الناس لو أنَّ العقوبات لم تُرفع !! وما أن أطلّ العام الجديد 2018م إلا وكان الجنيه السوداني قد تمَّ إغراقُه في وحلِ الإنهيار بالكامل وجاءت ميزانية (عام الرمادة) لتُعلن رسمياً خلوَّ وفاضِ الحكومة من كلِّ حلٍ أو مخرجٍ أو رؤية !! ولكنَّ الحكومة -وكما قلنا- لا يُعجزُها من أمر (فرمالات الخَمِّ) شئ، ولن تعدم أن تبتدعها إبتداعاً لو تطلب الأمر أو أن (تدوِّر) الفرمالات القديمة إذا دعا الحال..وهذا ما كان من السيد إبراهيم محمود مساعد الرئيس لشؤون حزب المؤتمر الوطني الأسبوع الماضي عندما أعلن وبثقةٍ تامةٍ وبضميرٍ مستريح -بعدما إحتجَّت الجماهير ضد تزايد الأسعار الفاحش الذي أتت به الميزانية- أنَّ سبب الضائقة الإقتصادية التي تمُر بها البلاد الآن هو تمسكُهم (براية لا إله إلا الله)..ويا لسبحان الله !! فالتمسُّك ب(لا إله إلا الله) بنظر سيادته هو سببُ الضيق والإملاق والشقاء والفقر الذي يعاني منه الشعب السوداني بدلاً من أن يكون هذا التمسُّك بهذه الراية سبباً للفرج والنماء والخير وسعادة الدارين !! والسيد إبراهيم محمود طبعاً راكب (بالقلَبة)، فهو يحاول أن يقول إنَّ حكومة الإنقاذ مستهدفةٌ بسبب عقيدتها، بينما العالم كله يعلم -وهو شخصياً يعلم- أن عقيدة الحكومة فاسدةٌ أو ربما أنها بلا عقيدة وبلا هدف وبلا رؤية..ومع هذا فهو يحاول أن يُركِّب هذا الفشل المتراكم في (راية لا إله إلا الله).. ولو علِم السيد إبراهيم محمود المعني الحقيقي لقولِ المولي عزَّ وجل في الآية الكريمة(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) لما قال هذا الكلام.. فالصلاح هنا يا سيدي هو صلاحُ إدارة وليس صلاحُ دين..فكلُّ من أحسن إدارة شؤون بلاده وأتقن إستغلال مواردها وأشاع (العدل) بين أهلها (ولو كان كافراً) هو أصلحُ لوراثة الأرض ممن يسئ إستخدام السلطة ويهدِرُ موارد البلاد ويشيع الظلم والإفساد بين الناس (ولو كان مؤمناً) كإيمان أهلِ الإنقاذ !! فالدنيا تصلحُ بالكفر مع العدل ولا تصلحُ مع الإيمان قرين الظلم والفساد والكذب والتدجيل والتدليس -كما يقول الشيخ محمد راتب النابلسي- !! ثم من يعادي الإنقاذ في عقيدتِها علي فرضِ صحتِها ؟! عدوُّ الإنقاذ يا جماعة الخير هو الإنقاذ الظالمة الكاذبة المضللة الفاسدة.. أشيعوا العدلَ والإصلاح تنصلحْ لكمُ الدنيا يا سادتي.. ولن تنصلح الدنيا -ولو جئتم بقِرابِ الأرضِ إيماناً وغُرَر صلاةٍ كاذبات- وأنتم تملؤونها ظلماً وجَوراً وأكلاً لأموال الناس وسفكاً لدمائهم وخمَّاً وتدليساً.. العدلُ أساسُ الملك في الدنيا يا سادة.. [email protected]