لعنة الله على المعرفة ! هكذا قال قلبي بينما أطلع على حقائق تجارة البشر في العالم، تلك التجارة التي اعتقدنا أننا ودعناها ونظام الرق البغيض إلى غير رجعة، فإذا بالمضابط الدولية تقول إنها تجارة باتت رابحة وتدر ثالث قدر من الأرباح في العالم بعد تجارتي المخدرات والأسلحة. وتجارة البشر بالتعريف الدولي لا تقتصر على نظام الرق الكلاسيكي برقيق يباع ويشترى يصطاد أو يؤسر في الحروب، بل فيها أشكال أخرى. ويُعرّف برتوكول الأممالمتحدة الخاص بمنع وحظر ومعاقبة الأشخاص الذين يتاجرون بالبشر وخاصة النساء والأطفال (وهو أحد برتوكولي باليرمو التابعين للعهد الدولي الخاص بمنع الجريمة المنظمة العابرة للحدود) الاتجار بالبشر بأنه (تجنيد ونقل وإيواء أو استقبال الأشخاص من خلال وسائل التهديد أو استخدام القوة أو غيرها من أساليب الإكراه والاختطاف والتزوير والخداع وسوء استخدام السلطة أو موقف ضعف أو إعطاء أو استلام دفعات مالية أو خدمات للحصول على موافقة الشخص على أن يسيطر عليه شخص آخر من اجل استغلاله. يتضمن الاستغلال في حده الأدنى، استغلال الأشخاص للعمل في البغاء أو أية أشكال أخرى من الاستغلال الجنسي، أو الاكراه على العمل أو الخدمات؛ العبودية، أو ممارسات مشابهة للعبودية؛ الأشغال الشاقة الإجبارية، أو إزالة الأعضاء). مما يجعل التجارة بالبشر نفوذا عبر ضعف الإنسان واحتياجه أو خداعه أو إجباره ليوافق على سيطرة شخص آخر عليه لاستغلاله بمختلف أشكال الاستغلال، إضافة لبيع الأعضاء. نبع اهتمامنا بالقضية لدى استماعنا لجلسة نظمتها “لجنة شئون أفريقيا والصحة العالمية وحقوق الإنسان الفرعية بالكونغرس الأمريكي” في الرابع من أكتوبر الجاري. وهي لجنة اشتهرت لدينا، إذ كان صدى بحثها لمسألة دولة جنوب السودان الحديثة في 16/6/2011م داخل السودان داويا، جعل المجلس الوطني يصدر قرارا مطولا من عشرين نقطة نصّبها فيه عدوة لدودة فهي “تعادي السودان، وهي مجموعة صغيرة لكنها مرجعية في الشأن السوداني ومؤثرة في القرارات التي تصدر بشأنه، ويزداد تأثيرها بسبب غياب أية مجموعة أخرى مناوئة لها تهتم بالشأن السوداني وتتعامل معه بموضوعية” (قرار المجلس الوطني رقم 42 بتاريخ 21 يوليو 2011م). في الجلسة المعنية والتي كانت بعنوان (تقييم شامل للسياسة الأمريكية تجاه السودان) استُقدم فتى جنوبي يدعى كير أليو دينق، كرقيق محرر من جنوب السودان تحدث عن تجربته. وركز رئيس الجلسة كريستوفر سميث (وهو رئيس اللجنة الفرعية)، على مآسي الرق في السودان، مؤكدا أن بلاده صنفت السودان في الفئة الثالثة من الدول بالنسبة لمسألة الرق، وهو الصنف الأسوأ، كمصدر ومعبر ومقصد للنساء والأطفال والرجال المتعرضين للعمل القسري والاتجار بالجنس. وقد اعتبرت هذا الجزء من الجلسة الكونغرسية تجنيا محضا، وزاد من يقيني أن مواقع السودان المعارضة والتي تتلقف الأخبار المناوئة للنظام أغفلت هذه الجزيئة في رصدها لجلسة الكونغرس. وركزت التقارير حول تلك الجلسة على كلمة الدكتور جيرارد بيونير الفرنسي الخبير بالشأن السوداني، وهي كلمة هامة نأمل أن نناقشها في مرة لاحقة بإذن الله. ولكن الإنسان ظلوم جهول، فهو أحيانا لا يركن لليقين، ويسأل عن أشياء إن تبد له تسوءه. وهذا ما جرى حينما استشرت مواقع في الفضاء السايبيري حول قضية الاتجار بالبشر. لقد اتضح، ويا للهول، أن الإنسانية هذه لا تصعد كما يبدو عليها إلا ماديا، بينما تتدلى معنويا بشكل يناقض الخطاب الراقي والرنان، فبرغم خطاب حقوق الإنسان السائد نجد أن تجارة البشر لا يخلو منها مجتمع ولا توجد دولة في العالم تستطيع ادعاء نظافتها كلية من هذه التجارة القذرة. واتضح إنها من أكثر أنواع التجارة درا للربح في العالم، واتضح أن السياسات والتشريعات المتخذة عالميا ووطنيا لم ترتق لمستوى مواجهتها بشكل جاد، واتضح أن أسبابها كامنة في النظام العالمي الظالم نفسه، وفي الظلم الاجتماعي الممارس داخل البلدان. فمن أهم أسباب هذه التجارة الفقر المدقع والمعاناة الاقتصادية لغالبية البشر في ظل حظوة الأقلية، والفساد الذي يضرب بعض المجتمعات بشكل رأسي، والنزاعات والحروب التي تسترخص حياة البشر فتساوي رصاصة واحدة ولا مانع من أن تقابل ببعض المال.. هذه الأسباب صحيحة داخل دول أكثر من أخرى، وهي صحيحة في عدم عدالة القسمة بين شمال الكرة الأرضية الغني وجنوبه الفقير. صحيح، المعرفة تشقي كثيرا، ألم يقل حكيمنا أبو الطيب رحمه الله: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم؟ فما بال صاحب العقل في الشقاوة! في السودان، بدأ الوعي بهذه الجريمة وضرورة مجابهتها مؤخرا، ومن البؤر الأكثر وعيا وحماسة لذلك جهاز تنظيم شؤون السودانيين بالخارج وأمينه العام السيد كرار التهامي الذي قال (إن السودان ينزع للاتجار بالبشر دون معرفة بأبعاد هذه الجريمة)، وقالت الدكتورة إشراقة مصطفى وهي من سودانيي الشتات إن الاتجار بالبشر قنبلة موقوتة في السودان. وقد نظم الجهاز في 31 مايو الماضي مؤتمرا لتنظيم الهجرة ومكافحة تجارة البشر، قدم فيه مشروع (قانون منع الاتجار بالبشر لسنة 2011). لكن في مقابل هذه الجهات المعترفة نجد كثيرين يحاولون إنكار الحقائق، برغم تكرار حوادث تجد طريقها للنشر في الصحف، مثل بيع البعض لأطفالهم بسبب الفقر، وشبكات للاتجار في الأطفال بعضها بدعاوى إنسانية كحادثة الطائرة الفرنسية قبل سنوات، والجثث الملقاة على قارعة الطريق للمهربات ضمن هذه التجارة من إثيوبيا برا عبر السودان، وتجارة الأعضاء خاصة بيع الكلي لكثير من الشباب السودانيين في القاهرة وغيرها، حتى وصل الأمر عرض ممثل شهير لكليته للبيع في القاهرة بسبب الإعسار (صحيفة فنون 17/10)! ونحن ندرك مع تفاقم العسر والفاقة كم من النساء والفتيات بعن أعراضهن لسد الرمق فهن وإن جنين على أنفسهن مجبرات وضحايا لمنطق الاتجار بالبشر اللعين. وهذه الظواهر تؤكد أن تجارة البشر ليست ظاهرة مرتبطة بالهجرة فقط، وإن كان جهاز المغتربين أكثر وعيا بها. لقد كتبت الأستاذة هند رمضان تقارير صحفية مميزة حول القضية آخرها في أغسطس حيث وصفت تجارة البشر في السودان بأنها في نمو متسارع في غياب التشريعات الرادعة. وقد تعجبنا حينما وجدنا هذا التقرير في موقع القوات المسلحة، مما يعني أن هناك كثيرون داخل مظلة الدولة لا يكابر. والمكابرة لن توردنا سوى لمهالك أكثر مما أوردتنا أحوال البلاد التي تجعل المناخ ملائما لهذه التجارة اللعينة، فالبلاد بضائقتها المعيشية، والحروب والنزاعات المتفجرة، والفساد الذي تم الاعتراف به، مشفوعا بدموع رئاسية، من على قمة المنابر، مناخلها مثالي لتجارة البشر.. وما لم تتسارع الخطى لسن قانون رادع محيط، وتصح العزائم لمحاربتها، لربما صرنا فعلا وصدقا مثل ما تقول أمريكا في تصنيفاتها لنا، وهي تصنيفات لا تزال لدينا موضع شك كبير. وليبق ما بيننا