في جولة ل (حريات) في سوق الرحمة – وهو سوق بالقماير بام درمان يحاول إسكات جوع فقراء يرزحون تحت إقتصاد فاسد ومتوحش – وجدنا الفقراء في سوق الرحمة يبحثون عن رحمتهم بأشكال (دبارة) لا تخطر على بال متنفذي المؤتمر الوطني من قاطني القصور الذين يتبارون في حجم أحواض السباحة . بمجرد ولوجنا لفتت انظارنا مجموعة من نساء وبعض الرجال بدت عليهم مظاهر العوز ويتدافعون امام طاولة خشبية تكومت فيها اكياس من الخبز القديم بل ان بعضه مخضر اللون أو أسود حيث انتشر العطن به ورغما عن ذلك تتخاطفه الأيادى . سألنا احدى المشتريات عن سبب شرائها لعيش قديم فاجابت العيش المروج ( من لفظة روج أي أحمر الشفاه) ده رخيص وانا عندي ثمانية عيال اكفيهم من وين ؟ والله لا كسرة بقدر اعوسها ليهم ولا حاجة وبشكوى تابعت ” كيلو الدقيق 4جنيه” ولا عيش من الفرن بقدر اشتريهو” اربعة رغيفات تتباع بجنيه”! من وين نجيب قروش قدر ده الا نسرق!!! وابتعدت عنا تحاول ان تبحث عن عيش أقل عطناً لأفواه ثمانية. من بعيد أتى رجل طاعن يحاول ايجاد مكان له وسط الزحمة حيث يحاول كل ان يضمن نصيبه في العيش “المروج” كمايسمونه تحبباً ولتخفيف وطأة تناول خبز ( مصوفن) على أنفسهم ، اقتربنا منه في حذر ، بصوت مبحوح اجاب : ( انا شغال في السوق صرماتي ، اصلح الجزم القديمة وكان لقيت بيعة بتاعت جزم مستعملة بشيلها وابيعها واشيل الف ولا اتنين وادي الباقي لسيد الجزم ، العيش المروج رخيص ، كيس فيهو ستة عيشات بخمسمية جنيه ، مرات بيكون فيهو بايظ لكن سيد العيش بيديني ليهو ببلاش ، بس بقوم انقيهو! ونأكل الحتة المافيها صوفين) . فرغت طاولة العيش فى وقت قياسى فسألنا البائع عن مصدر هذا الخبز ، اجاب ان هناك عدد من الافران يتبقي لديها فائض من انتاج الخبز اليومي لاسباب الركود او قلة الطلب ، يقوم هؤلاء ببيع هذا الخبز لنا بالجملة بعد مرور يوم او اكثر عليها باسعار زهيدة نقوم نحن بدورنا ببيعها للمواطن بعد اضافة فائدة بسيطة جدا. رواد السوق من سكان الحي الفقير مع وجود بعض متوسطي الدخل الا ان الملاحظ ان اغلب المواد الاستهلاكية تباع بكميات قليلة ( قدر ظروفك) . في الجزارة تكومت اصناف من اللحوم الحمراء والبيضاء، لاحظنا وجود تصنيف غريب للحوم البيضاء الخاصة ، حيث الاجنحة علي حدة والارجل والمناقير مع احشاء الدجاجة علي حدة ، سالنا الجزار عن سبب هذا التصنيف، اجاب ان رواد هذا السوق اناس في اغلبهم فقراء ويمثل لهم هذا التصنيف حلاً ، كيلو الاجنحة يباع فقط باربعة جنيهات ، اما الارجل والمناقير فانها تباع فقط باثنين جنيه ، وأضاف قائلاً لدي زبونتان جارتان يشترين ربع الكيلو من الاجنحة ومن ثم يطلبن مني قسمة الربع الي نصفين!! شبح الجوع مخيم علي المكان… والفقر يبدو علي البائعين – تجار ملابس مستعملة ، صرماتيه ، بائعات وبائعين لاطعمة شعبية من طعمية والسمك الصير ، وبائعات الايس كريم ( دردمة) ، هذا الي جانب سائقي المركبات العامة والرقشات وطبعا المشترين الذين في الاغلب نساء …وأطفال انطفأت نضارة عيونهم بالفقر ولكنها تتوقد حين تنظر في تشهي لأكياس الدردمة كأنما تبحث عما يطفئ جوع وعطش الطعم المسكر الذي فقدوه وذويهم نتاج سياسات تزيد الاثرياء ثراء وتغرق الفقراء في مستنقع المسغبة والمعاناة .