شهد شهر ديسمبر من العام الجاري تصفية اثنين من قيادات الحركات المتمردة علي النظم القائمة في دولتي السودان وجنوب السودان الجارتين اللدودتين، وهناك أوجه شبه كثيرة بين الرجلين، فكلا القائدين جورج أطور وخليل إبراهيم قد خرجا من رحم الأنظمة التي قامت بتصفيتهم، كما أن كلا الرجلين خاضا محادثات سلام مع النظم التي يقاتلونها ولم تفضي إلي حل مرضي، إضافة إلي أن كلا الرجلين يشتبه بأن تصفيتهم تمت بالاستعانة بجهات أجنبية، وان التصفية لم تتم علي أيد الأجهزة الأمنية والعسكرية في البلدين . إلا أن التناول الإعلامي والسياسي للمقتل الرجلين كان مختلفا كل الاختلاف في البلدين، وفقا للرؤية السياسية والإعلامية لصناع القرار في الدولتين، فقد كان التناول السياسي والإعلامي لمقتل جورج أطور يتسم بالجدية والهدوء والعقلانية والرؤية السياسية التي تقرأ ما وراء الأحداث، بينما كان تناول مقتل خليل إبراهيم سياسيا وإعلاميا غارق في السطحية والتهريج الإعلامي الذي يؤدي إلي تأجيج المشاعر ويدفع في اتجاه تبني سياسيات انتقامية، قد تكون نتائجها وخيمة خلال الفترة المقبلة . وتميز التناول الإعلامي لمقتل خليل إبراهيم من قبل المسؤولين في النظام السوداني بارتباك وتخبط شديدين كعادة النظام في مثل هذه الأحداث، والأمثلة علي ذلك كثيرة بدءاً من ضرب مصنع الشفاء مرورا بالهجمات المتعددة علي شرق البلاد من قبل الطيران الإسرائيلي، فقد طالعنا المتحدث الرسمي للحكومة صباح يوم الأحد بأن مقتل خليل إبراهيم قد كان في اشتباك مباشر مع القوات المسلحة التي كانت تتعقبه، فيما أعلن وزير الدفاع في جلسة سرية أمام البرلمان في وقت لاحق أن استهداف خليل قد تم عن طريق الطيران الحربي بعد رصد مكالمة هاتفية تلقاها القتيل . وفور إعلان الخبر جيش النظام كل إمكانياته للاحتفاء بالحدث في بادرة جديدة تماما علي تاريخ السودان السياسي، وقد كان العنوان الرئيس في بداية الأمر الاحتفاء بمقتل المتمرد خليل إبراهيم، ما لبثت أن تغيرت إلي الاحتفال بانتصارات القوات المسلحة، ولكن مع تغيير العنوان إلا أن جوهر الاحتفالات بقي علي حاله الاحتفاء بمقتل خليل . كما أن تصريحات مسؤولي النظام لم تكن اقل ابتهاجا من الكرنفالات التي انتظمت كل أرجاء البلاد إحتفاءاً بالحدث، وقد كانت التصريحات في كثير من الأحيان مستفزة ولا تخلو من عبارات مهينة لا تراعي حرمة الموتى، وتستفز مشاعر الكثيرين من أنصار الحركة وغيرهم من أبناء دار فور والهامش، وقد توج هذه التصريحات السيد رئيس الجمهورية بقوله “أن مقتل خليل إبراهيم كان قصاصا ربانيا علي جرائمه”، الشيء الذي نخشى أن يؤدي إلي رد فعل عنيف لا تحمد عقباه . وفي المقابل استوقفني كثيرا برنامج تلفزيوني علي قناة جنوب السودان يوم الخميس الماضي، والبرنامج يقدمه عميد في الجيش الشعبي لجنوب السودان، كان البرنامج يتحدث عن مقتل جورج أطور، فقد تطرق البرنامج إلي السيرة ألذاتيه لأطور، وتاريخه النضالي مع الحركة الشعبية، وكان مقدم البرنامج حريص كل الحرص علي تمجيد الرجل بصورة كبيرة، وإظهار الجوانب المضيئة لحياته، كما عرض البرنامج الكثير من الصور لأطور مع رئيس الحركة سفاكير ميارديت . وخلص البرنامج إلي أن الخطأ الذي ارتكبه جورج أطور في التمرد علي الحكومة لن يقلل من حقيقة انه أحد أبناء جنوب السودان البررة، وانه مناضل شرس واحد صناع الكفاح الطويل الذي أدي إلي ولادة دولة جنوب السودان، وان تقديره الخاطئ للأمور وتمرده علي النظام القائم لن يقلل من تاريخه النضالي، ولن يمحوه من الذاكرة الجنوبية . بالتأكيد أن معد البرنامج كان يعلم تمام العلم أن الاحتفاء أو الشماتة بمقتل أطور لن يفيد دولة الجنوب في شيء، وان للقتيل أنصار وقبيلة وفوق هذا وذاك له قوة عسكرية علي الأرض كانت تقف معه، وان الاحتفاء أو الشماتة أو الإساءة إليه لن تغير من الواقع شيئا، بل ستؤجج مشاعر الكثيرين ممن يتعاطفون معه ويرونه بطل وعلي حق، هذا العقل والمنطق الحصيف هو ما ينقص صناع القرار لدينا الشيء الذي يدفع إعلامنا ومسؤولينا إلي الإسفاف والتهريج الغير مجدي . [email protected]