ما أقسى على الانسان أن يجد نفسه مندفعاً بكلياته لفعل شئ لا يجيده وليس أهلاً له في وجود آخرين يفوقونه علماً ودراية وخبرة، هذا ما حدث لي مع ذكرى رحيل المبدع مصطفى سيد أحمد، الذي تهل علينا هذه الأيام ذكرى رحيله السادسة عشرة، لأجد نفسي مجبراً على الحديث عنه وهو الفنان المتعدد المواهب، رسماً وشعراً ولحناً وغناء، بينما شخصي الضعيف ليس له حظ يذكر في كل هذه المجالات الابداعية، ومن هنا تأتي معاناتي في الكتابة عن هذا الفنان المدرسة المتفرد المتمكن الذي لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد في تملكه لأدواته الخاصة ومفرداته الأكثر خصوصية، فما سمعت فناناً يوزع كلماته وألحانه ما بين الشجن والفرح، وما بين الصوت النابع من القرار والجواب الحاد مثلما يفعل مصطفى. لقد كان مصطفى من الفنانين الصفوة لكونه أحد أبرز المبدعين الذين حملوا هم الغناء الرصين والمفردة المتفردة واللحن الشجي الذي يطرب ويمتع ولو كان حزيناً، وكان أيضاً فناناً لعموم الشعب والبسطاء والكادحين بوجه أخص، لم يكن منحازاً لحزبٍ كما كان يشيع البعض، فقد كان حزبه الغناء، ولم يكن أنانياً في حبه وهو الذي أحب الوطن بترابه وطينه وقمحه ونيله وانسانه النبيل، وبكلمة واحدة كان مصطفى قد «شال كتف الغنا الميل» وأثقل به كاهله على قول المبدع الآخر الشاعر عاطف خيري الذي غناه مصطفى بنفسه «وناديتك أقيفي معاي نشيل كتف الغُنا الميّل… ونتخيل»… ستة عشر عاماً انسلخت من عمر الزمان ومصطفى حاضر بقوة بيننا رغم غياب الجسد، وكيف يغيب مثله وهو قد ترك فينا ما لا يمكن أن يغيب أو يندثر أو حتى يلفه النسيان، فأثر العظماء لا يُمحى وتاريخ الأحداث العظيمة باقٍ لا يزول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهكذا كان مصطفى من العظام الذين تركوا أثراً وبصمة على الغناء السودان ستظل خالدة ومذكورة ما ذُكر الغناء السوداني، وحسبي هنا في مقام تذكر ابداعات الراحل العزيز أنه لم يكن مبدعاً فذاً فحسب، بل كان صاحب كرامات غنائية، ومن كراماته التي أذكرها أنه غزا حتى قلب قريبنا الورع الذي لم يكن يناديه أحد إلا بلقب «مولانا»، فرغم أن مولانا هذا لم يكن يسمع أو يردد سوى قصائد المديح وآيات الذكر الحكيم، إلا أننا ضبطناه في بعض خلواته (متلبساً) وهو يترنم بصوت هامس ب«غدار دموعك ما بتفيد في زول حواسو اتحجرت، والسمحة قالوا مرحلة بعدك الفريق أصبح خلا» وغيرها من أغنيات مصطفى الأبكار أول ظهوره، ومن كراماته التي أشهد عليها أيضاً أنه استطاع أن يرقق ويرطب وجدان زميل لنا ويرتقي بذوقه وينقله نقلة حضارية كبيرة من حالة البداوة والفظاظة التي كان عليها، حيث كان مصطفى هو أول فنان يجبر هذا البدوي القح على متابعته واقتناء أشرطته، فصار بعدها رقيق الحاشية رطب الوجدان حلو الكلام… رحمك الله يا مصطفى، ورطّب الله قبرك كما رطبت وجداننا وجملّت حياتنا….