[email protected] ما أصدق الشاعر المهاجر ايليا ابو ماضي، حينما قال مخاطبا وطنه وهو بعيد عنه ، مستنكرا على من ظنوا انه نسى موطنه ،بقوله في قصيدته المشهورة وطن النجوم التي غناها الفنان الراحل أحمد المصطفى بعبقريته المبكرة ( زعموا سلوتك ، ليتهم نسبوا الىّ الممكنا ) وترجمه فناننا المغترب داخل ذاته قبل أن يغادرالبلاد الطيب عبد الله، وهو يتغني في السنين الأولى له، ( الغريب عن وطنه مهما طال غيابه ، مصيره يرجع تاني لى أهله وصحابه ) وهكذا قرر صديقنا كمال يحى عباس وهو أحد اساطين المغتربين ، أن يضع عصا الاغتراب ويولي وجهه شطر السودان العزيز بعد اربعين عاما من الاقامة في دولة الامارات العربية المتحدة وتحديدا في مدينة العين التي أتي اليها (والعود منه أخضر ، و يهم الأن بمغادرتها تاركا العود منها اخضر )، كما قال شاعرنا الدكتو ر البدري عمر الياس حينما وصف علاقته بتلك المدينة العروس التي تتدثر بثوبها الدائم الخضرة ، وتتزين في ذات الوقت برمالها الصفراء التي تحفها كالهودج ، وكفاها مخضبان بظلال الحنية وهي تمسح بهما في ترحاب على وجه كل من سكنها وتكفكف عن عينيه دموع الغربة ! صحيح أن الكثيرين يغتربون ، ثم يعودون ، وذلك أمر بات عاديا ، بل روتينا يوميا في زمن الشتات هذا . لكن هم قليلون هم الذين يشعر الأخرون بأهمية عودتهم ، ويحتفون بهم ، ردا لجميل أوفوه مسبقا في الغربة لغيرهم ، وكان كمال يحى عباس واحدا من ابرز هؤلاء ، فهوذلك الفتي ( الضو ) الذي كان بيته على مدى سنوات غربته خيمة شيخ عرب لا ينطفى سراجها ليلا ، ولا يغلق مدخلها نهارا ، فصار قبلة لكل قادم جديد يقيم حتي ( يسكن رأسه ) في بدايات غربته . كان كمال عونا للكل ، يعطي بيمينه دون أن تعلم يسراه ! مضيافا مبسوط الجبين ، باسم العينين ، منفرج الثغر ، ديدنه الايثار ، وكانت غربته للآخرين حقا ، مخلصا لأهله ، حتي كاد أن ينسى نفسه من فرط حبه للكل ، فأحبه الجميع ، وحق له ، أن يجد الوداع اللائق به ، ولعل مبادرة الجالية السودانية عبر ناديها العامر بالعين مساء اليوم الثلاثاء هي أقل واجب تجاه هذا الرجل الكبير حبا ومقاما . فأهل الوفاء هم من يستحقون رد الوفاء ولو في احتفال متواضع ، قد لا يكون نقطة من بحر أفضال كمال يحى ، الذي أخلص في عمله ، وصدق في اخائه ! وحمل الوطن معه في حله وترحاله ، وهاهو يقرر أن يعلق بقية جلباب عمره المديد باذن الله في مشجب الوطن ليرتاح عند حوائطه و يبلل قدميه في شواطئه من رهق الترحال، فهلا يجد التكريم ، دفئا في الحضن الذي فارقه طويلا ..ويجيئه اليوم بشوق طفولي دافق ؟ طوبى لك أيها الفتى الطيب ، كمال يحى عباس ، حيثما حللت وهنيئا لك وأنت تعود صافي البال ، مرتاح الضمير ، بعد أن أبليت مخلصا ، وستبقى تذكارا عزيزا وفخرا للسودان ، نباهي به من بعدك ، حتي نجتمع معك على أريكة العودة في عيون الوطن الحبيب ، والى ذلك الحين ، نتمني لك السداد والتوفيق، ولا نقول وداعا ، ولكن لنا لقاء هناك ، باذن الله ..المستعان .. وهو من وراء القصد..