salihshafiealnil@yahoo,om كانت الخدمة المدنية في السابق تتمتع بهيبة واضحة لكل من يرتاد دواوين الحكومة ، وكان مصدر تلك الهيبة ، الألتزام الصارم من الدولة بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب حسب مؤهلاته وامكاناته وقدراته. وكانت قوانين الخدمة المدنية نافذة على الكبير قبل الصغير ، لذلك ساد الأحترام بين الموظفين سواء كان ذلك احتراماَ لأقدمية التوظيف أو تقديراَ لكينونة الوظيفة نفسها وما ينبغى أن يقدم للوطن من خلالها. وفي هذا السياق امتدت منظومة الأحترام لتشمل العلاقة بين موظفى الدولة وبين المواطنين مما أنتج علاقات متطورة من التعاون بين أفراد المجتمع المدنى انداحت انجازاَ وتقدماً طال كافة مناحى الحياة الاقتصادية و الاجتماعية. وجاء عهد حكومة الانقاذ الوطنى التى كان من بين أولويات سياساتها أن تقوم وبأسرع وقت ممكن بأدلجة دواوين الحكومة ، أى أن تبادر بتنفيذ عملية احلال كاملة للكادر الوظيفى في البلاد بكوادر منسوبي الحركة الاسلامية، وكذلك توظيف كل من ترى أنه قابل للتدجين والاستئناس والتجنيد من غير المنظمين اسلامياَ حتى تضمن استمرارها في الحكم ، وهكذا بدأ عصر ما يسمى بفقه التمكين اصطلاحاً….. وهو فقه له شروط وأدوات ليس من بينها ما يحدث في بلادنا من فوضى وتخبط. وتفاوتت حظوظ الوزارات من حيث التدمير الذى لحق بها جراء سياسات الاحالة للصالح العام ، مثل وزارات السيادة كالخارجية والداخلية والدفاع. وكانت هذه الوزارات أسوأ حظاً من غيرها من حيث تهافت الاسلاميين عليها سواء كان ذلك لغايات الأمن والتأمين أو لأغراض الراحة والسياحة ، و نضيف اليها ، وزارة الصحة التى نكبت قي كادرها ولا زالت لا لشىء الاّ للمحاولات اليائسة البائسة لغسل التاريخ الناصع للأطباء في اسقاط الحكومات الشمولية. واستمرت هذه السياسات العشوائية للاحلال والاحالة و تواصلت بشكل راتب و منظم ، بصورة فردية أو عبر واجهات لجان الاختيار سيئة الذكر، منذ العام 1989 حتى يومنا هذا. وتغلغل هذا الأخطبوط السرطانى الذى يسمى ( التمكين ) داخل أنسجة الخدمة المدنية وأوردها موارد الهلاك والضعف والانهيار بحيث لم تعد تكفي كلمات قالها الرئيس لاستئصال أورامه المتشابكة المتداخلة . ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر نشوء كيانات ومراكز قوى داخل أجهزة الدولة تقوم بالتحسس والتجسس والأرهاب ، ودائما مايعلو سلطانها على ضوابط الخدمة نظراَ لأنها تستمد قوتها من خارج أروقة الوزارات المعنية . وسمعنا الناس يتندرون على سبيل المثال بالسكرتير الثالث قي الخارجية ( المركّب ماكينة سفير ) أى أن سفيره لا يستطيع أن يوجهه أو ربما يقوم هو بتوجيه سفيره لا فرق ، كما سمعنا بالجندى ( المركّب ماكينة ضابط ) أى أن آمره لا يستطيع أن يأمره….وغير ذلك من شاكلة الأجتماعات ( المؤامرات ) التى تحاك خارج أسوار مؤسسات الدولة ومن وراء موظفيها وتتخذ فيها القرارات المصيرية. وهكذا وعلى هذا المنوال يتم اختيار غالب الموظفين عن طريق الواسطة والمحسوبية والجهوية والقبلية رغم ضعفهم البائن وهشاشة عظامهم في مجالات تخصصاتهم فيما يتم اتباع سياسة الجزرة والعصا و الخيار والفقوس في التدريب والترقيات والمكافآت بل والاحالة الى المعاش حسب قرب أو بعد الموظف عن مراكز صنع القرار . وأنتجت هذه السياسات الفاشستية نوعية خاصة من الموظفين يندرجون بشكل أو بآخر تحت التصنيفات التالية مع التحفظ في التعميم: التملق والنفاق ومسح الجوخ وحرق البخور والضحك بلا سبب. الخوف على الرزق أكثر من الرغبة في العطاء ، ثم التسربل بفضيلة الصمت ( الذى هو من ذهب) والتستر على الفساد وان مر مرور السحاب لا ريث ولا عجل. الولاء للأشخاص قبل الولاء لله والوطن. انهيار الروح المعنوية وعدم الرغبة في تطوير الأداء وغياب الارتباط الوجدانى بالوظيفة حيث أن الترقي والتقدم في الخدمة لا تحكمه أسس الاجتهاد الشخصى. اللامبالاة ( وأنا مالى ). ازدواج الشخصية ( ودى عايزة دكتور ) أى الدفاع عن النظام باليدين والأسنان علناً ثم السخط عليه سراً حال الفكاك من أسر الوظيفة أو حتى الاستوزار. العجرفة الوظيفية والفلسفة المفتعلة لبعض المتسلقين زوراَ وبهتاناَ. الاستعلاء العرقى الوهمى. وهلمجرا وهلمجرا من الأمراض الوظيفية المستعصية. ان واقع الانهيار الذى تعيش فيه الخدمة المدنية اليوم ، لا يتوقع لها نهوضاَ قريبا منه، الاّ بتنظيفها من التمكين والمتمكنين بمسمياتهم المختلفة ، ومن ثم السماح لجميع أبناء وبنات السودان من الشمال والشرق والجنوب والغرب ، الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراَ، أن يعملوا دون خوف في وطنهم السودان الذى هو وطن الجميع . ولا يتأتى ذلك في تقديرنا الاّ في اطار هيكلة سياسية وادارية عامة ، ومن قبلها توفر ارادة سياسية تؤمن بالاصلاح وفق العدالة وسيادة القانون . وبذلك فقط يمكن أن تتعافي الخدمة المدنية وتعود اليها هيبتها وازدهارها ووقارها ومن ثم تنحسر تلقائياَ وتبعاَ لذلك تفلتات الفساد المالى والتراخى الادارى. أما الاصرار على الخطأ والمغالطة والمماحكة وادمان الفشل واتباع سياسة الطناش التى سبق أن جرّتنا الى ذيل قائمة الشعوب النامية فى السياسة و الأقتصاد والاجتماع والرياضة ( طيش افريقيا والوطن العربى ) سيقذف بنا الى قاع الهاوية .