ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    الصليب الأحمر الدولي يعلن مقتل اثنين من سائقيه وإصابة ثلاثة من موظفيه في السودان    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالفيديو.. في مشهد خطف القلوب.. سيارة المواصلات الشهيرة في أم درمان (مريم الشجاعة) تباشر عملها وسط زفة كبيرة واحتفالات من المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجديد عند الصادق المهدي -الإشكاليات والاختلالات
نشر في حريات يوم 08 - 03 - 2012


مقدمة
يعاني الفكر السوداني من علة مميتة،وهي القدرة علي ممارسة النقد، والحوار،والاختلاف.ورغم ترديد عبارة المجاملة غير الصادقة:ان اختلاف الرأي لايفسد للود قضية.ولكن في الواقع ،قول الحقيقة لا يبقي للمرء صديقا في العلاقات السودانية.رغم أنه لا يمكن أن يتطور الفكر بدون الحوار والجدل والاختلاف بل المعارك الفكرية،كما نعلم ذلك جيدا في حالات التجديد التحولات الفكرية.والفكر العربي الحالي هو نتاج معارك كتاب:-” في الشعر الجاهلي”،لطه حسين؛وكتاب:- ” الإسلام واصول الحكم”،لعلي عبدالرازق.ومعلرك مدرسة الديوان بريادة العقاد،والمازني،وشكري.وفي السودان،اثرت نقاشات قومية الأدب السوداني والتي شارك فيها خلال فترات مختلفة المحجوب،ومحمد محمد علي،ومحمد النويهي،ثم نقاشات مدرسة الغابة والصحراء ؛علي تطور حركة الثقافة والفكر. ولكن بعض المجتمعات التي يغلب عليها الطابع البدوي والذكوري،تجد في النقد والنقد الذاتي إنقاصا للقدر والمكانة،وجرحا للذات.ويواجه النقد صعوبات عديدة أخطرها “الشخصنة” وبالتالي يفقد النقد قيمته الحوارية التي تظهر الافكار المتنوعة،وتساعد علي التقويم وفرز الأفكار الجيدة والصحيحة والقادرة علي الاستمرار والاقناع.وفي هذه الحالة ينصب النقاش حول من قال وليس ما قيل،ويدخل أي كلام في هذه الوضعية في متاهات ومسارب من المهارات غير المجدية.وهذه من أهم أسباب الفقر المدقع الذي اصاب الفكر السوداني:غياب النقد والحوار.وهذا الكتاب يسعي الي أن يكون حواريا وليس سجاليا،والفرق كبير،مع الإمام الصادق المهدي مباشرة،والوسطاء يمتنعون.
لديّ انطباع، اتمني من قلبي أن يكون خاطئا وظالما. وهو أن (الصادق) يجد صعوبة شديدة في قبول النقد، وممارسة النقد الذاتي بطريقة موضوعية وشجاعة.إذ لايناقش( الإمام) في مثير من الاحيان، آراء من يخالفونه بطريقة مباشرة او بشخصه،وهنا يتراجع المفكر الحر ويتقدم شيخ الطائفة حين يترك مهام الرد للأسرة والحواريين.وبالتالي يتم تغييب الطرف الآخر-المحاور كند علي الأقل فكريا وبشريا فقط.ويصبح الحوار مبتورا ومن جانب واحد اقرب الي المونولوج منه الي الديالوج الذي يتطلب طرفين. وهذا عيب فظيع، ونقص معيب تجاه الآخر،فيمن يقدم نفسه كمفكر،إلا إذا أراد أن يكون المفكر المعصوم.لأن عملية انتاج للافكار لابد أن تكون عرضة للاخطاء والقصور.وهذا يفسر ميله الي طريقة البيانات والبلاغات،وهو اسلوب يختلف عن الحوار.فهناك جمهور افتراضي من المتلقين السلبيين خلاف المحاور النشط المشارك والمشاغب. ومن ناحية اخري،لابد من النقد الذاتي وهذا يعني أنه لابد أن يتوقف المفكر في بعض الاحيان لكي يفكر في افكاره، أو ما قد يسمي هذه الايام:المراجعات.لذلك،يحتاج(الصادق)بعد هذه الكتابات الغزيرة المتواصلة الي وقفة يكتب فيها عن كتاباته،نقدا وتقويما وتطويرا. ومن ميزات الرأسمالية ،رغم مشكلاتها العديدة،أنها تجدد نفسها من خلال تحديد عيوبها ومحاولة إصلاحها.ويري البعض ان جوهرالحداث هو النقد لذلك سادت المدارس النقدية في العديد من المجالات الفكرية والثقافية.وفي نفس الوقت ،يعرّفون الدين بأنه الإيمان والقبول غير الخاضع للنقد،وأخطر ما في الدين الشك حين يتسرب للقلب أو العقل؛ولذلك يتمني الكثيرون ايمان العجائز.وقد يفسر هذا بعضا من أسباب النقص النقدي في حياتنا وثقافتنا.
كتب(محمد فتحي عثمان)في مقدمة كتابالعقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الاسلامي):-”…ولكن احسب قراء العربية بالعامة مقبلين علي الصادق المهدي(مفكرا)و(عالما) مهما اختلفت وجهات النظر فيما يجوز فيه الاختلاف بين انسان وانسان،وبين عقل وعقل..واحسب أن المؤلف الذي يلح في الدعوة الي اجتهاد معاصر ويبرز في مخالفة بعض اجتهاد الاقدمين،لا يضيق باختلاف مخلص في الرأي والاجتهاد”.(ص13)ونحن نستفيد من هذه الرخصة في محاورة الإمام الي أقصى مدى بكثير من الاحترام المستحق لعدة أسباب.أولها،احراجه للساسة السودانيين بأن السياسي السوداني يمكن أن يفكر، ويقرأ،ويكتب.ثانيا،روح المثابرة والصبر رغم ظروفه الخاصة وظروف السودان التعيسة.ثالثا،هو من أكثر السياسيين السودانيين الذين قابلتهم أدبا وكرما،وبالمناسبة هو الوحيد الذي كان يصر علي دفع ثمن التقرير الاستراتيجي الذي يصدر من مركز الدراسات السودانية،والذي يحرص علي حضور ندواته ونشاطاته.فهو يفرض عليك أن تبادله الود والادب،وهذا هو الشعور الحقيقي نحوه،ولكنني احب الحقيقة أكثر.
***********
يبدي(الصادق) رغبة حقيقية في الاجتهاد والتجديد والإصلاح،وينشغل بمعادلة الأصالة والمعاصرة. وهو مهموم ومهجوس بسؤال كيف يمكن لنا كمسلمين أن نكون نحن أي نحافظ علي خصوصيتنا وذاتيتنا، وفي نفس الوقت نكون جزءا من العصر؟وهذا تيار فكري إسلامي كبير تنامي بعد منتصف سبعينيات القرن الماضي،خاصة بعد حرب اكتوبر1973 والفورة النفطية التي تلت ذلك،ثم الثورة الايرانية الإسلامية1978.وقد اكتسب هذا التيار تسمية:الصحوة الإسلامية.ورغم التباينات والاختلافات،يجمع بين اصحابها الإيمان بعودة المسلمين الي التأثير علي مسيرة العالم.وتندرج كتابات(الصادق)الفكرية ضمن هذا التيار العام،خاصة تلك الفئة التي تفضل مفهوم(الاستقلال الحضاري)ولكن اغلبهم جاء من اليسار مثل عادل حسين،وطارق البشري، ومحمد عمارة،ومنير شفيق،ويسمي بعضهم بالاسلاميين المستقلين تمييزا للمنظمين في الأخوان المسلمين أو الجماعات الاخري.وذهبت عناصر في هذا التيار بعيدا،متأثرين بافكار لاهوت التحرير في امريكا اللاتينية خاصة، والمفكر الايراني علي شريعتي.وحاولو منافسة اليساريين في مرجعيتهم الاشتراكية، وفي المطالبة بالديمقراطية والحريات والنهضة.فقد اختاروا تسميات مثل اليسار الإسلامي(حسن حنفي) والإسلاميين التقدميين في تونس(صلاح الدّين الجورشي،محمد القوماني،عبدالعزيز التميمي،وجماعة مجلة21/15) واصدارة:إسلام 21 تحت اشراف ليث كبّة والجمرى.وتدخل مبادرة الحوار القومي – الديني التي اطلقها مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت.والمحاولات الاجتهادية الفقهية المعاصرة التي يتبناها:جمال البنا،يوسف القرضاوي،محمد الغزالي،وبعض شيوخ الازهر؛تسير في اتجاه التيار الديني الجديد.وكثير من الكتابات الاكاديمية في الفكر الديني الحديث،هي اصداء لهذه الصحوة،مثل:محمد عابد الجابري،ومحمد اركون،ونصر حامد ابوزيد،ومحمد شحرور.وقد عمل(الصادق)علي الانتماء فكريا الي هذا التيار رغم أنه لا يذكر هذه الاسماء مباشرة في مراجع واستشهاداته.ولكن التأثر واضح ولا يمكن تجاهله أو اخفائه.
تتكرر مفاهيم الصحوة والانكفاء أو الأصل والعصر،في كتابات (الصادق) مع جهد واضح لتطويرها وعقلنتها بالاعتماد علي القياس،والمصالح المرسلة،والمقاصدية.ويحاول اظهار مرونة كبيرة تساعده في توفيقيته ووسطيبه المعلنة. ولكن رغم هذه النوايا الطيبة تواجهه عدة اشكاليات في الوصول الي نظرية في الأصالة والمعاصرة،وهي التي يحاول هذا الكتاب مناقشتها.ويتبني الكاتب في هذا المقام تعريفا اجرائيا للاشكالية باعتبارها:-” النمط النظري الذي تطرح من خلاله مشكلة واقعية،وليست المشكلة الواقعية نفسها. أوبالاحري،وبشكل أدق، هي الطريقة التي يحول فيها النظر الواقع الي مشكلات،أي إلي قضايا يمكن تحديدها،وتقديم إجابات وحلول لها.”(غليون،2007:327).والإشكالية صورة عقلية مركبة للواقع وليست مجرد انعكاس مباشر له،لأنها تنتج بطريقة”تدخل فيها عناصر المعرفة العلمية والقيم الاجتماعية معا،أي المنهج والأهداف والآمال والرؤية العقائدية الكامنة جميعا أو المعلنة عند الباحث”.(نفس المصدر السابق). ويفرّق التعريف بين انواع الاشكالية ،مثل الاشكالية الخاطئة.وقد تكون كذلك “ليس لأن الواقعة التي تحاول أن تقدم طريقة لاستيعابها وفهمها وحلها غير موجودة ولكن،بالعكس،لأنها كما هي عليه،غير قادرة علي الإحاطة بكل عناصر هذه الواقعة”.(ص327)وهنا يظهر مفهوم الإشكالية المصطنعة التي تكون،”عندما تعيد إنتاج هذه الواقعة في مشكلة،أو تحولها إلي مشكلة لا تستجيب،ولا تعبر بالفعل عما يظهره الواقع كل يوم ،أي عن التناقضات والصراعات الحقيقية التي تعتمل فيه وتسيره وتكونه”.(نفس المصدر السابق).وهي تخلق تناقضا حيث لا يوجد تناقض،وتخلق وحدة وانسجاما حيث لا وحدة وانسجام،ةلهذا لا تؤثر علي الواقع.وهذا ما اخذناه علي(الصادق)في ميله للثنائيات المجردة.
تعتبر الاشكالية الأولي والاهم،هي قيام فكره علي عملية الصراع بين صحوة دينية مقابل الحضارة العلمانية الحديثة.ويكاد يشبه الماركسية في ايمانه بحتمية هذا الصراع كبديل عن الصراع الطبقي.ويمكن قراءة كل فكره علي ضوء هذه المقابلة المتوازية أي التي لا تلتقي عند موقع ما.ولكنها – في رأي- معركة مصطنعة تماما.وكما يقول الفقهاء هو جهاد في غير عدو.وقع(الصادق) في التجزئية،ومحاولة اثبات تفوق الإسلام من خلال اثبات نقص ودونية الحضارات وحتي الديانات الاخري.لذلك،وقف دون انسانية مجددين اسلاميين آخرين .وفي أي مقارنة بين الصادق المهدي ومحمد اقبال مثلا ؛يتحدث الاخير عن رسالة للانسانية كافة آخذين في الاعتبار،المأثور من فلسفة الإسلام الي جانب ما طرأ علي المعرفة الانسانية من تطورات راهنة في نواحيها المختلفة. كمايقول(اقبال)باعادة البناء والتأسيس أيتجديد اعادة بناء الفكر الديني في الإسلام.(2010:6) وهو لا يتردد في الحديث عن رسالة في التنوير والتغيير، بينما هذه مصطلحات يتجنبها (الصادق)ويرهق نفسه في البحث عن بدائل أو مترادفات لها،حتي كلمة الانسانية المنتشرة يستبدلها بالناسوت.
يعود هذا القصور الي أن (الصادق) سجن نفسه في مرجعية محلية وجزئية وماضوية هي: المهدية.وقد اجبره هذا القيد علي الالتزام بمناهج،وادوات تفكير،ونظريات محدودة وراكدة لحد ما.وقد بذل جهدا ووقتا ثمينا من أجل المنافحة عن المهدية الدولة،والثورة،والفكرة ثم محاولة تبرير عصرنتها وتجديدها.وهذا ماجعله يقبل بالرؤيا،ويتبني الحضرة،ويتخلي في احيان كثيرة عن العقلانية.لذلك، يجهد (الصادق) المفكر، العقلاني،الباحث،الكاتب غزير الانتاج،كثير الحضور في الملتقيات الفكرية،نفسه في اثبات دور الإلهام والرؤيا في انتاج أفكاره. ففي آخر خطبة بمناسبة عيد ميلاده في25 ديسمبر2011،يقول:- “في ندوة تحدثت فيها عن دور الإلهام في الهداية، تصدى لي ظاهريون يناقضون ما قلت، فات عليهم تدبر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ، ومن الإلهام النداء الذي سمعه الصحابي بالأذان واعتمده النبي (ص)، كذلك الرؤية الصادقة، وقد سجلتُ في حياتي أكثر من عشرين رؤيا صادقة أرى الرؤيا وأشهِد عليها اشخاص بعينهم وتصدق.وحتى خارج نطاق الدين هنالك دلائل استشعار لا حسي في البشر: الألمعي الذي يريك الرأي كأن قد رأي وقد سمع.”
هل يمكن أن يكون بيت شعر دليلا مفحما علي مكانة الإلهام في التكوين الفكري لإنسان ما؟
يكثر(الصادق) من الحديث عن الحضرة النبوية حين ينافح ويدافع عن اشراط المهدية.وهذه مسألة تدخل أي مفكر عقلاني في حرج منطقي وفكري .فالحضرة تعني ضمنيا ان الوحي لم ينقطع مازال مستمرا.فمن المعروف أن دور العقل في الفكر الإسلامي قدرا كبيرا من الجدل ولم يحسم الا من خلال الاقصاء والابعاد.وكثير من المفكرين المتدينيين قللوا من قيمة العقل في الايمان لو شعروا بالتعارض.ويقول جلال الدين الرومي:”إن العقل يترصّد قلب الانسان النابض ويحرمه ذلك الزخر من الحياة الكامنة فيه”.وحين اصر (الغزالي)علي أن يفرّق بين الحدس والعقل،لم يجد حلا غير التوصل الي الحل الصوفي. وهناك خيارات فكرية عملت علي رفع التناقض بين العقل والحدس،وعلي سبيل المثال، برجسون يري الحدس ضربا عاليا من التفكير.ويؤكد آخرون علي شكل من تقسيم عمل فكري بلا تناقضات ولا داعي للتفاضل؛لأن الفلسفة نظريات،بينما الدين تجربة حية،مشاركة واتصال وثيق. ويري البعض ان الواقع والتاريخ دلّا علي ضرورة التفكير،لأن وجود الفرق والمذاهب الفقهية دليل علي التفكر. ويحسم البعض الأمر بالقول أن القرآن كتاب تفكير وليس للحفظ والتلاوات.حافظه من الضياع والنسيان هو من اوجده:”إنّا أنزلنا الذكر وإنّا له لحافظون”، وهو كتاب عمل ايضا. ويري كثيرون أن ختام النبوة ليس لاهوتا ولكنه شكل من اشكال الناسوت(الانسانية) – حسب لغة المهدي،فهي تعني تحميل الانسان مسؤولية الاجتهاد والتفكير بنفسه دون وسيط.وهذا يعني ان الاجتهاد عملية علمانية،بالمعني الواسع، لحد ما لانه تدخل بشري(العقل)في امر ديني(الوحي). كما أن عمليات الاصلاح والاحياء الديني المتكررة،تعني رفض الكهنوت في الاسلام.ولم يدخل(الصادق)عميقا في هذه النقاشات،لأن المهدية اعطته طمأنينة ظاهرية علي الأقل. ولكنني – حقيقة – عجزت تماما في الوصول الي الحكمة في الاصرار علي اضفاء هذا الجانب الغيبي الصارخ علي أفكاره:هل يجعلها ذلك أكثر قوة واقناعا؟هل يجعلها أكثر إثارة من أفكار رصفائه العقلانيين؟هل هي تأكيد فائض لجذوره المهدوية القدسية ذات المعجزات؟
لم اجد سببا معقولا لهذا القيد غير الاصرار علي احياء المهدية واستصحابها في معركة التراث والمعاصرة،أو الأصل والعصر- كما يفضل.ولكن (الصادق)لم يقدم تفسيرا لفشل المهدية رغم هذه الشحنات الروحية والإلهامية التي اسهب في ابرازها؟
فهو يكتب:-”تراكمت ظروف مثل:وطن منقسم وممزق،التزام ديني ناقص،ظلم اجتماعي مستحكم،استعمار اجنبي غاشم.تلك العوامل صحبت الدعوة المهدية وساهمت في بلورة موقفها المتشدد(……) ولكن تشددها جلب لها عداء الشرائح السودانية التي لم تقبل برنامجها من اهل السودان”. “ولكن اخفاق الدولة المهدية في التعامل مع الآخر الوطني ومع الآخر الدولي بصورة ادي للتحالف المعادي لها الذي هزمها عسكريا”. (الاعتدال والتطرف ص14-15)لا يفسر العامل الخارجي:لماذا سقطت الدولة المهدية رغم التأييد الجماهيري المدهش الذي لازم الحركة؟فهو لا يكفي وحده،كما أنه يقلل من قيمة القوة الذاتية التي كثيرا ما يتم التحدث عنها بكثير من الفخر والزهو خاصة عند التغرض للانتصارات.هناك تحولات كثيرة طالت الواقع والحياة بين الانتصارات الاولي والهزيمة الاخيرة.ولا يتوقف(الصادق) كثيرا عند سلبيات هذه الفترة(1885-1898)،ولا يمارس، لا يحتاج بالضرورة الي أساس قديم.وهذا الموقف لا يعني رفض التراث أو القديم،ولكن المقصود أنه ليس شرطا إن لم يتوفر لا يمكن بناء الجديد.فالمعركة ليست مسألة رفض التراث ولكن كيف نضع في الاعتبار نسبية التعامل وبالتالي تبيان المواقف من التراث وضرر التطرف معلوم، ويوصل مباشرة للتعصب. يري بعض الباحثين أن القطيعة الإبستمية أو المعرفية” التي يجب أن تحدث إزاء الموروث ليست تنكرا له وإنما هي تحرر منه حتي لا يبقي الحاضر سجين الماضي وحتي لا تحدّد معالم المستقبل بحسب تصورات وسجلات العهود الغابرة”(المزغني،ص92).وفي السياق السوداني،تقفز للذهن شخصيات مجددة ومجتهدة محليا محمود محمد طه وبابكر كرار،لم يحتاجا للاستنجاد بطريقة صوفية أو طائفة دينية في التجديد والمغامرة الفكرية.
من وجوه اشكالية(الصادق) المصطنعة،أو ما يمكن تسميته باختلالات التجديد، الاصرار علي مواجهة عصية الحل بين العلمانية والدين.ويصر علي عبارات قاسية ومنفرة في وصف العلاقة،وهي طرد الدين من الحياة. وهذا لايعبر عن واقع ملموس،لأنه لا يوجد علماني يطالب بطرد الدين من الحياة، بل اقصي ما يطلبه هو فصل الدين عن السياسة. وهذه عملية اقرب الي تقسيم اجتماعي للعمل(التخصص). وهذه معركة سياسية بامتياز وليست دينية.وللمفارقة،يمارس الدينيون علمانية معكوسة تتمثل في جر الدين للسياسة وبالتالي تخلق المواجهة بين الدين والسياسة.ويظهر ذلك في الحشد الجماهيري لتثمير السياسة لكسب المؤيدين والنواب وليس لكسب مصلين وعابدين .وهذه العلمانية المعكوسىة لا تدعو لزيارة المساجد،ولكن تستفيد من هم اصلا زوار مساجد.
يعلم(الصادق) قبل غيره استحالة فصل الدين عن الدولة عمليا،لما له من مظاهر ورموز دينية فردية وجماعية في اعتي الدول العلمانية. ومن المعلوم وجود حاجات ونزوعات انسانية غير ماديةتكاد تصل حد الغريزة، يستحيل طردها من الحياة أو تجاهلها.وهي جاجات ثلاث:الدي ومجاله الروح،والفلسفة ووسيلتها العقل،ثم الفن ومكانها الوجدان. وهي تمثل معا الروحانيات التي تزيد انسانية الإنسان ،ويستحيل أن يوجد انسان حقيقي يستحق هذه الصفة ليس له نصيب منها.خاصة الدين الذي صار عملية بحث عن المعنى، وليس مجرد رد فعل يتمثل في الخوف من الطبيعة والمجهول،خاصة مع تقدم العلم. ومن الخطأ خلق تعارض مفتعل بين العلم والروحانية لانهما لم يعدا في حالة تنافس وعداء كما كان الحال في العصور الوسطى مثلا.وهناك ميل للتكامل بدون صراع بدائل، لأنهما اشكال متنوعة للمعرفة التي تعمل للسيطرة والتكيف الخلّاق علي/مع الطبيعة.ولكن هناك شروط وقيود لابد من مراعاتها،وهي أن يعمل الدين كسلطة روحية فقط لا سياسية بمعني الخلط بين الدين والساسية وبالتحديد استغلال وتوظيف الدين في العمل الحزبي.وفي هذه الحالة لا يكون الدين افيون الشعوب ،بل يمكن أن يتحول الي فيتامين الشعوب كما حدث في لاهوت التحرير في امريكا اللاتينية.وفي النهاية لا يمكن اختزال الفضيلة والأخلاق في الدين فقط رغم أنه وسيلة فعّالة ومؤثرة.ولا أدري كيف يفسر(الصادق) زيادة ممارسة الشعائر الدينية والطقوس؛وعلاقته الطردية بقلة التدين. ففي نفس الوقت الذي نلاحظ فيه قلة التدين والانحرافات،مثل:انتشار المخدرات،التحرش الجنسي،الاطفال غير الشرعيين .. الخ .فمن خلال هذه الشكلانية الدينية لا يمكن الحكم علي حركة الروح بالمظاهر الخارجية،فالفتاة المنقبة ليست بالضرورة أفضل،أوأكثر اخلاقية من غير المحجبة اصلا.وهذا يعني ضرورة اعادة النظر في مقابلة الدين والتدين في مواجهة العلمانية والعلمنة.
واخيرا،هذا الكتيب هو في حقيقة الأمر تدريب علي الحوار والنقد داخل الفكر السوداني.واتمني أن يقرأ ويفهم حسب غايته بعيدا عن الشخصنة والتأويل والمبالغة.وهذه دعوة ومفتتح لتبني هذه العادة بقصد تطور ونهضة الفكر السوداني والذي خمد طويلا لاسباب عديدة منها غياب فريضة النقد.
Hayder Ibrahim [[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.