تيسير حسن إدريس… فجع تيار اليسار في الأشهر القليلة الماضية في عدة قيادات تاريخية وكوادر جماهيرية كانت لها إسهامات مقدرة وأثر بالغ في الحياة السياسية والأوساط الإبداعية، فبعد رحيل الصحفي الأول في الحزب الشيوعي ورئيس تحرير صحيفة (الميدان) منذ التأسيس الأستاذ المناضل التجاني الطيب أواخر العام الماضي توالت أحزان الرفاق بفقد فنان السودان وأفريقيا الأول العملاق محمد وردي ولم يكد الدمع يجف عن المآقي ليعود شلالا منهمرا بالرحيل الدراماتيكي “لهوميروس” السودان صاحب “إلياذة” الرجاء والتمني (أرضا سلاح) والذي فارق الحياة بعد وقت قصير من حفل تدشينها ووقت أقرب من انطلاق قعقعة السلاح مرة أخرى في رحاب الوطن الجريح وفي ذلك تعبيرٌ صادقٌ عن قدرة المبدع الحق على الإحساس بما يخبئ الدهر من نوائب وتحليل الواقع الماثل واستقراء تداعياته على المستقبل ولعل “حميد” بتسميته لمجموعته الشعرية الأخيرة ب(أرضا سلاح) وما حملت قصائدها من رجاء ومناشدة ونداء تمني قد ترك وصيته لشعبًا أنهكته سنوات الاحتراب العبثي الطويل فطفق الموجوع بجرح الوطن والمتيم في حب إنسانه يصرخ في وجه سماسرة الدماء والحروب ويصيح كفى! في رحيل هذا المبدع المتفرد قد تجلت المأساة في أبلغ وأوضح صورها ففاجعة الوطن ونكبته فيه عظيمة وتختلف عن فجيعة رحيل غيره ممن سبق وجلهم قد أكمل مشروعه ورسالته التي عاش وناضل من أجلها إلا أن مشروع “حميد” الإبداعي التنويري -لهفي عليه- لم يزل في ريعان الصبا غضًا ومترع كأسه حد الإفاضة وبستان شعره الوريف مازالت تتفدع أغصان شجيراته بيانع الثمر الطازج وما حصاد المجاميع الشعرية التي صدرت إلا غيض من فيض لا يتعدى البواكير الناضجة لموسم غرس دانية قطوفه تقاصرت ليال الحصاد في جمع كلما طرحت أشجاره المحملة بما لذ وطاب من الإبداع الأصيل، وهنا مكمن الوجع وسر اللوعة والأسى الذي عصف بمحبيه ومناصري مشروعه الفكري الإبداعي الفذ. لقد كان قصيد “حميد” وحرفه لسان حال سواد أهل السودان في ظل النظم المتوحشة الجائرة وصوته المبدع السند الحقيقي لهم يخفف عن كواهلهم وطأة إفرازات الواقع المنحط الموغل في الظلام واقتصاد السوق الطفيلي المتوحش وفي وسط كل هذا الجنون والانحدار نحو الغرائزية وسيطرة الرغبات المريضة والمشاعر الدنيا كان شعر “حميد” دوحة ظليلة تقي إنسان السودان هجير ممارسات التعسف والظلم الذي صار عنوانا لمرحلة المشاريع الإقصائية العنصرية كان جرسه الشعري متنفس لغبش الوطن ومهمشيه وكلماته تعبيرا صادقا عن معاناة كل فرد منهم تبعث في نفوس الغلابة الأمل وتزودهم بطاقة ايجابية يستطيعوا من خللها التماسك والاستمرار في النضال من أجل غدٍ أكثر عافية وإشراق لقد كان إبداعه ترياقًا ضد الرتابة والسأم ومعادلاً نفسي يصعب تعويضه، لذا كان هول رحيله داويا مجلجلا زلزل الضمير الجمعي لشعب ما فتئ يعاقر الحزن والفشل منذ خمس عقود ويعافر الظلام الدامس منذ أكثر من عقدين. لهذا فرحيل “حميد” المبكر الفاجع لا يشبه رحيل غيره من الراحلين مؤخرا عن مضارب اليسار فلقد كان بجزالة حرفه آلة إعلامية متكاملة العدة والعتاد تبث في هدوء وبلغة رصينة الروح في برنامج اليسار المنافح عن الغلابة والمسحوقين وتشرح مفرداته الفكرية المعقدة في بساطة محببة وتوصلها ندية طازجة بلا ضوضاء أو كثير عناء ليفهمها ويهضم مغزاها العامة فشعر “حميد” كان بحق وجبة شهية كاملة الدسم ، ورحيله يعد نكبة كبرى للمشروع الإبداعي الحداثي ولطمة موجعة للخطاب التقدمي التنويري الذي يعتبر من أهم وسائل وأدوات رفع الوعي الجماهيري. نبدأ من وين الحكاية ونبدأ من مين يا رفيق وعازة فوق قيف البداية وأنت في نهاية الطريق ونحن بيناتكم نشابي زينا وزي الغريق ”حميد”! صح (الموت ما رمرام!!) يتخير الأخيار وأنت كنت فينا أجملنا وأنبلنا وأطيبنا فسلام عليك يا داعية المحبة والسلام في دار السلام، نم قرير العين يا رفيق متوسدا أحلام حروف دفترك الأخير (أرضا سلام). تيسير حسن إدريس 15\04\2012م