مهدي إسماعيل مهدي – بريتوريا [email protected] (تأخرت عمداً في نشر هذا المقال- حتى تهدأ الخواطر وتبرد نار “حي ووب” بشأن حادثة طائرة تلودي وتداعياتها، التي تقزمت الآن “كما توقعنا” وتراجعت إلى سطرٍ وحيد في شريط أخبار تلفزيون السودان، داعياً أهل البذل والإحسان بالتصدق على اُسر وفلذات أكباد الضحايا!!). - كعادتي السيئة التي لم استطع منها فكاكاً – رغم العديد من المحاولات – أدرت مؤشر التلفاز تجاه الفضائية السودانية بعد أن عُدت من صلاة عيد رمضان الفائت، مُمنياً النفس بشم رائحة البلد والأهل أثيرياً بعد أن عزَ علينا العيش بين من نُحب بفعل فاعل (أحال، وما يزال يُحيل أعيادنا إلى مآتم)، وكغيري من خلق الله السودانيين، قرأت على شريط الأخبار نبأ سقوط نعش تلودي الطائر وموت كُل من كان بداخله. ومنذ تلك اللحظة تغشتني حالة من الكآبة الطاغية- رغم أني لا أعرف أحداً من الضحايا معرفة شخصية (عدا المتوفي/ غازي الصادق، إذ إلتقيته لأشهر قليلة منتصف التسعينيات في ميز الشركة العربية بمزرعة أقدي بالقُرب من الدمازين حيث كان يعمل مُفتشاً زراعياً بالشركة العربية للزراعة الآلية بالنيل الأزرق – وهي ذات مشروع الزراعة الآلية قبل الخصخصة والعربنة والأفسدة، وكنت متواجداً هناك لإدارة حاصدة زراعية خاصة- فاشلة، بعد أن سدت الإنقاذ في وجهنا كُل أبواب العمل الميري). - رغم قناعتي التامة بأن الذين قضَوا حرقاً على سفح جبل نار تلودي ليسوا ملائكة رحمة ولا رُسل سلام ومُعايدة، حسبما يحاول الدجالون إيهامنا، إلا أننا لا نملك إلا الترحم على أرواحهم والدعوة لأطفالهم اليتامى وزوجاتهم الثكالى وآلهم المفوجوعين بالصبر، إذ لا شماتة في الموت، خاصة وأن القتلى في نهاية الأمر تربطنا بهم رابطة الإنسانية وعاطفة السودانوية والدين الذي يُحرم قتل المُسلم للمُسلم، فلقد جاء في الأثر (إذا التقى مُسلمان فالقاتل والمقتول في النار)، فرب العباد أدرى بالسرائر وبخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وعموماً لسنا من يوزع صكوك الشهادة أو الفطاسة (إن صح التعبير) فتلك فُتيا إختص بها الشيخ نفسه، وزاحمه فيها بآخرة أساطين الدجل والشعوذة. - من حق الناس أن يتساءلوا؛ هل كان وفد تلودي وفداً إنسانياً خالصاً لمُباركة العيد؟ أم كان وفداً أمنياً وسياسياً وعسكرياً “أي أنهم أُمراء إدارة حرب جنوب كُردفان”- كما أفادونا أول مرة؟ ولئن كان حسبما يزعمون وفد سلام ومُعايدة ومُراحمة، فأين موقع ملائكة الرحمة وأخوات نٌسيبة و”الجندرة” من إعراب هذا الوفد الذكوري؟ – هل أصبح لواءات الدفاع الشعبي وقادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني (ناس أكسح أمسح قشو، ماتجيبو حي) يقومون بعمل ضُباط العلاقات العامة؟ أليس مُريباً إرسال وفد من خمسة وعشرين مسئول وقيادي (حتة واحدة) لمُجرد التهنئة والسلام وترداد “كُل عام وأنتم بخير”؟ أهذا هو التقشف وترشيد إستخدام الموارد البشرية والمالية؟- عجبي!!. - عاد التلفزيون إلى الصفقة والرقيص مع إنصاف مدني وترباس وفرفور، واللغو مع حسين خوجلي ومكي المغربي وسيف البشير، بعد أسبوعٍ فقط من شكليات الحداد والحزن الذي لا يعيش إلا لحظة البُكاء. وبعد شهرٍ على الأكثر لن يتذكر أحد من سدنة المؤتمر الوثني، قتلى جبل نار تلودي: الجعفري وأبو قرون ورفاقهم من الضحايا، ولن يفتقدهم إلا أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم. أما الصافي جعفر وعبد الرحمن الخضر ودانيال كودي، فقد يتحينون مأساة أُخرى يعلنون فيها نفاقهم للرئيس وذرف دموع التماسيح، والإزورار عن قول الحق في وجه سُلطانٍ جائر وجاهل، وها هو ودالطاهر يتحسر كذباً على تفويت فُرصة الشهادة ويُنذرنا بأن طائرة تلودي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة؟ دون أن يكلف نفسه عناء التساؤل؛ لماذا لا تكون الأخيرة؟. ألأن البشير يُريد أن يُصلي في كاودا!؟ وُيريد تحرير جبال النوبة من النوبة؟!؛ فلو كان رئيس السُلطة التشريعية صادقاً مع نفسه لمارس دوره الرقابي بإعتباره رئيساً للبرلمان وساءل “بكُل شفافية” رئيس السُلطة التنفيذية “البشير” عن أسباب رفضه لإتفاق أديس أبابا الإطاري، الذي كان كفيلاً بحقن الدماء التي سالت أنهاراً!! إتق الله يارجُل- فكُل ابن أُنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول. ولربما من الأصوب تذكيرك بالقول الرائع للراحل الخالد/ صلاح أحمد إبراهيم “آخر العُمر طويلاً أم قصير،، كفنُ من طرف السوق وشبرُ في المقابر”- وندعو الله أن يُحقق أمنيتك في الشهادة بأسرع مما تتصور!!. - بلغ الألم مداه وتجاوز الحزن حد الإحتمال عندما بثت الفضائية السودانية اللقاء المُسجل مع أُسرة الضحية/ الجعفري- في قبايل العيد- ولن تبرح مخيلتي حتى أتوسد يميني، صورة رب الأُسرة وهو يحتضن اصغر أطفاله بحنان أبوي غير مُفتعل، ولم يكن حينها يدور بخلد تلك الأسرة المكلومة أن تلك آخر لُقيا وأخر حنان أبوي للصغير الذي سوف يعيش باقي عُمره مع أخواته نُسيبة ورُفيدة وفاطمة، متقلبين في جمر اليُتم وحنظله، واليُتم يا سادة من أشق الأمور على النفس، وأسألوا مُجرباً ولا تسألوا من حرمه الله من نعمة الأبوة وحنانها، لحكمة إلهية يعلمها علام الغيوب!!. - وعلى ذكر المُقابلات التلفزيونية، فلقد أبدع شيخ أم ضواً بان (أو أُم ضُبان، قبل المشروع الحضاري سئ الذكر) في كشف المستور عندما قال ساهياً في معرض ذكر مناقب قريبه الراحل، اللواء/ أحمد الطيب أبو قرون، أن اللواء الراحل جند أكثر من 300 (ثلاثمائة) مُجاهد من خلاوي القرية في صفوف الدفاع الشعبي!!. أي 300 إنكشاري مهووس من المركز لمُقاتلة النوبة المجوس والوطاويط والقُمز في ديار الكُفر في كراكير كاودا وباو. - كُل هذه المآسي يا ذوي الضحايا، من الجانبين يتحمل وزرها العميد/ عُمر البشير، ووزير دفاعه الأهطل/ عبد الرحيم، وحارقي البخور وضاربي الدفوف الذين زينوا له النكوص عن إتفاقية أديس أبابا الإطارية (إتفاق مالك عقار- نافع)، وأوهموه بقُدرته على الصلاة في كاودا، مُتنافسين ومتغافلين عن أن البشير سبق وأن صلى في جوبا وفي الكُرمك من قبل!! ومع ذلك لم يرضخ الجنوبيون أو شعب الانقسنا ولم “يدفعوا الجزية وهُم صاغرون”، بل نالوا إستقلالهم وتحررهم عنوةً ولإقتداراً، وها هو مرشح المؤتمر الوطني لمنصب والي النيل الأزرق/ د. فرح عقار، يُنادي بالحُكم الذاتي (ويا لك من متُنبي وقارئ جيد ومحلل إستراتيجي يا جون قرنق!!). - من الأفضل للدكتور المُتعجرف/ كمال عبيد (مُمثل جبال النوبة والنيل الازرق و”السودان قاطبةً” في محادثات أديس أبابا) التفاوض مع عرمان وعقار والحلو .. فهؤلاءِ يحاربونكم إنطلاقاً من فكرٍ قومي أصيل ويدعون إلى حل أزمة السودان الشاملة بعقلانية، ويمسكون عنكم دُعاة الجهوية والعنصرية والقتل على الهوية، فلا تنسى يا عبيد أن لكُل أُسرةً سودانية ثأراً مع عُمر البشير وأحمد هارون وعبد الرجيم محمد حسين وبقية العصابة، ولعلكم وبلا شك لا تعرفون مشاعر الناس تجاهكم في معسكرات النزوح، ودياسبورا المهاجر (فهل أذكركم بستة آلاف فوراوي موتور في إسرائيل!!!) يتحرقون شوقاً لأكل أكبادكم التي ليست بعيدة عن متناولهم!!. - خاتمة المقال لذوي الضحايا وأنجالهم، انضموا إلى الطرف الآخر المُتضرر أيضاً من هذه الحرب العبثية، وثوروا على من كان السبب.