فتيات متسولات، شحاذون، أولاد سوق، وأطفال صغار عيونهم جاحظة. عذاب، انسحاق، كوابيس مرعبة، وبطل الرواية الكسيح (آدم) الملقب بكسحي الملك، يمارس مهامه بفعالية في الشوارع والأزقة، في الأسواق وبين المتاجر والمقاهي. هذا هو العالم الذي ينسجه الكاتب السوداني منصور الصويم في روايته “ذاكرة شرير” الصادرة حديثا عن الدار العربية للعلوم ببيروت. يحكي “الصويم” عن جماعة من البشر دفعتهم الحياة إلى مستنقع المدينة الآسن، يعيشون على الحافة، ويغامرون بحياتهم ألف مرة من أجل لقمة العيش، ينامون على الأسفلت ويمزقهم جوع كافر، ثم يأكلون بقايا البقايا، يتعاطون مخدرًا رخيصًا إلى أن تمضي بهم الحياة نحو حتفهم. إنه واقع شديد المأساوية والبؤس، لكن ليس هذا ما يميز رواية “ذاكرة شرير” وسط العديد من الأعمال الروائية، بل هناك أمران أساسان سيطرا على هذا العمل الروائي؛ أولهما: يكمن في البناء السردي المتماسك الذي يبني معماره بشكل عامودي يتصاعد مع الحدث ولا يخرج عن إطاره. والأمر الثاني: هو السرد من الداخل؛ أي أن الصويم منح بطله – عبر استخدام ضمير الأنا في مجمل الرواية، وفي مقاطع قصيرة ضمير المخاطب – القدرة على سرد الحكاية من بؤرتها الأساسية؛ من الشارع الذي تربى فيه بطله، والقص من العالم السفلي لأطفال الشوارع وليس كمراقب لهم؛ للحكم عليهم سواء بالإدانة أو التعاطف. ثمة أمر آخر يسيطر على النص هو القدرة على الإمساك بالقارئ من دون أن يفقد حس التعاطف؛ سواء مع بطل الرواية الرئيسي آدم، أو مع الأبطال الجانبين: مرتوق، أم سلمة، الحجة عشة، وهيبة، رحمة، جاك تويلا، وغيرهم. يُقسم الكاتب روايته إلى ثمانية فصول؛ تبدأ مع فصل “مثلث الأسمنت” وتنتهي مع فصل “وسوسة إبليس”. ينفتح المشهد الأول في النص مع البطل آدم الكسيح وعودته إلى السجن، وإن كان لا يتضح من الصفحات الأولى أن المكان الموصوف هو أحد عنابر السجن، إلا أن هذا ما سينكشف فيما بعد. يصف الكاتب المكان بدقة متناهية تتيح للقارئ تخيله بسهولة، ثم يدلف إلى ذاكرة بطله، منذ طفولته الأولى مع أمه الشريدة “مريم كراتيه” التي يصفها بالأم العظيمة، يحكي عن أيامه القليلة معها بمحبة بالغة تضفي على الوصف نوعًا من الحنين الغائر، وكما لو أن تلك الأيام كانت أيامًا سعيدة لم تعد في متناول يده الآن. يقول: “الهدهدة، ما كنت أحسه وأمي العظيمة (مريم كراتيه) تضعني على حجرها.. تضمني وتقبلني لاكتشف طعم (السلسيون الفائح) من شفتيها.. لا بد أنني كنت أحب أمي، ولا بد أنني أحس الآن بطعم الخسارة المر بفقدها الأبدي.. تركتني للشحاذات الصغيرات، وتمضي كي تموت في مبارزة مجنونة، ضد أولاد السوق، الشماسة المتسلحين بخيال مسطول وقوة مخدرة”. يختصر هذا المقطع طفولة البطل آدم، الطفل الكسيح الذي رعته متسولات صغيرات، استخدمنه كأداة استجداء أكثر فعالية في التسول. تمضي الحياة به لا بيت له إلا الشارع الكبير، يتحايل على الواقع المر كي يعيش متنقلا من يد إلى يد؛ ومع الأيام تزوي ذاكرة طفولته ومعها ذكرى الأم العظيمة، ولا يظل قابعا في ذاته إلا حاضر صلب، شديد القسوة، من دون أن تعوقه قدماه العاجزتان عن الحركة؛ لأن أمه عودته على الالتصاق بالأرض حين كانت تتركه وحده لساعات طويلة، بل إن هذه العاهة التي ميزته عن غيره من أطفال الشارع ستجعله فيما بعد أكثر مهابة وهو يجر ساقيه وراءه، ويجعل قدميه تتعارضان وتلوحان وهو يزحف على الأرض، مستندا إلى يديه الصغيرتين، يستجدي المارة والعابرين بكل أساليب التسول التي مرنته عليها “وهيبة”، و”أم سلمة”، اللتان تكفلتا بتربيته. تستمد الرواية عنوانها “ذاكرة شرير” من فعل التذكر الذي يتم التنقل إليه مع استخدام صيغة المخاطب، في مقاطع سردية معينة، وإن كان الانتقال لهذه الصيغة قليلًا على مدار صفحات الرواية، لكنه يحدث من دون قطع أو فاصل، بل من الممكن أن يتم في المقطع نفسه. وغالبا في فعل التذكر والانتقال لضمير المخاطب يتم استحضار مشاهد وأحداث حاسمة في مجرى الحدث؛ كأن يقول: “يا كسحي، تذكر ذلك الزمن. الجامع الكبير، بيت الله وبيتكم”. “كم من الأعوام مضت، وأنت تتربع على مربعات مثلث الأسمنت”. “لكنك يا كسحي، حين بدأت بتمزيق القماش المهترئ، ومدت تجاهك خرقتك، بعد أن بللتها بالسائل اللزج، أخذتها ورائحة جسد حميم تحاصرك”. “يا للألم وأنت تتذكر هذا يا كسحي”. يحمل فعل التذكر استعادة للماضي، بما يشكله من انعكاس على الحاضر المرعب المتشابك مع خوف باطني من نهاية مفاجئة أو غدر غير متوقع، وبين عالم الشارع بكل وحوله، وبين عوالم الجريمة، والسرقة، والشعوذة. عبر فعل التذكر، يستعيد كسحي أيامه في بيت الشيخ الفاسق الذي يتزوج من “وهيبة”. يأخذ الشيخ “وهيبة” إلى بيته الكبير، ويأخذ معها كسحي الذي يحوله إلى مساعد له في أعمال السحر؛ حيث يرتاد بيته تجار، وضباط، ورجال كبار في أجهزة الدولة، أطماعهم توازي قوتهم، وأيضا نساء يبحثن عن الحظ واللذة والسطوة. هكذا يصير كسحي هنا كائنا أقرب إلى المسوخ، حين يدخل إلى غرفة النساء المعتمة لعلاجهن على اعتبار أنه جني، وتبدو الصورة – على ما فيها من دراماتيكية رهيبة – محملة بواقع مأساوي وبائس، لأشخاص تبدأ حياتهم وتنتهي في غمضة عين، ولا يدري أحد بهم. “وهيبة” تعود إلى الشارع بعد القبض على الشيخ الفاسق، رحمة تموت بالإيدز، “سلوى” تصاب بالسل. وأشخاص يظهرون ويختفون، يبتلعهم ظلام الشارع؛ حيث يتشاجرون بعنف حقيقي، ثم يستسلمون لسطوة مادة “السيلسيون” المخدرة، يتكومون فوق بعضهم وينامون. ثمة أمر ينبغي التوقف عنده – عند الحديث عن فعل التذكر – وهو وعي البطل (آدم)، الذي يبدو متجاوزا في بعض المواقف. شخصية المشرد الذي ينتمي إلى الشارع فقط، فعند حديثه عن الطراز المعماري في الأسطر الأولى من الرواية. وعن افتتانه بالسينما “السينما عالم متصل لا ينتهي بانتهاء الفيلم، أثره المدهش يمتد حتى نهايات مسامرات الليل”. يبدو متفوقا على محدودية عالمه المعرفي، الذي لا يمنحه هذه القدرة السلسة على الوصف الدقيق لعوالم غريبة عنه. يحيلنا فعل التذكر أيضا للتوقف عند كلمة “شرير” في عنوان الرواية، إلى مدلول الكلمة ومدى تطابقها مع عوالم الرواية وشخصيات الأبطال؛ إذ ليس ثمة خير وشر، أو قواعد سلوكية اجتماعية تحكم حياة الأبطال منذ بدايتها إلى نهايتها. هناك واقع الشارع الذي لا يرحم، يطبق قوانينه بلا رحمة على الضعفاء، فلا مساحة هنا لفكرة الشر؛ لأنها بلا مدلول إلا في عُرف القوانين الاجتماعية السائدة التي لا تنطبق على أبطال الرواية ليس لأنهم خارجون على القانون فقط، بل لأنهم مظلومون وضعفاء وهشون، وهم الضحايا الحقيقيون لكوارث الأنظمة السياسية والاجتماعية الفاسدة، التي لا تلتفت إليهم – وإن التفتت – لن تتعامل معهم سوى بلغة العنف؛ من هنا تأتي كلمة “شرير” محملة بنوع من الحكم القيمي على بطل الرواية الذي جاءت أفعاله منسجمة تماما مع واقعه، حتى في الجزء الأخير من النص؛ حين يسلك مسلك الشيخ الفاسق، يدعي الكرامات، ويمارس الشعوذة، وتموت في داره الفتاة الجميلة الشقراء التي عالجها من قبل وهو يؤدي دور الجني على أيام شيخه الفاسق. لم تبدُ أي من أفعاله كلها خارجة على السياق المرسوم له من البداية، حتى حين يتم وضعه في السجن وبداية ادعائه القدرات الخارقة، ظل كل هذا ردا منطقيا على سيرورة حياته الأصلية. ربما لا يحضر فعل الشر المباشر سوى في الأسطر الأخيرة؛ حين يسترسل في وصف وسائل الخداع التي كان يمارسها في داره، موت الفتاة، ودخوله السجن، وختامه النص بعبارة: “عاما أو اثنين، وربما أعود”، أي أن لعبة الشعوذة التي فرَّ منها في أيام الشيخ الفاسق، صار جزءًا منها بعد أن راقت له، وصار هنا هو الذي يقوم بدور الجلاد، وفق مقولة: “الضحية جلاد قادم”. لا يحدد الكاتب مدينة معينة تقع على أرضها أحداث الرواية، فقط يرد اسم “النيل” عابرا أكثر من مرة؛ لذا فمن الممكن اعتبار وقائع هذه الرواية قابلة للحدوث في السودان أو مصر أو المغرب، أو أي بلد عربي آخر موجود فيه شريحة عريضة من أبطال العالم السفلي، المهمشون الذين قلما يجدون من يحكي عنهم أو ينقل صوتهم. لقد تمكن منصور الصويم من تحقيق معادلة الكتابة من منطقة العتمة عن عوالم المشردين، بلا أي نبرة إدانة عالية لأي أحد، بل ظل يشير بطرف خفي للأسباب والنتائج؛ لينسج أحداث روايته بلغة فنية عذبة ومتماسكة في آن واحد. (خدمة وكالة الصحافة العربية).