السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخُرطُوم.. كُل سنة وإنتِ حُرَّة
نشر في كورة سودانية يوم 27 - 03 - 2025


محمد عبد الماجد
الخُرطُوم.. كُل سنة وإنتِ حُرَّة
نحمد الله أنّنا من قلب الخُرطُوم ومن عاصمة الصُّمود أبداً، كان لنا أن نشهد انتصار (الشعب) السوداني العظيم في ثورة ديسمبر المجيدة، والتي جاءت تلك الحرب من أجل طمس ملامحها وتدمير مكاسبها، ثم كان لنا أن نشهد انتصارات (الجيش) في ربوع العاصمة وهو ينشر الأمن والطمأنينة ليلاقي النيل الأبيض بإسهابه السَّهل، غريمه النيل الأزرق بانسيابه القوي في مقرن الخُرطُوم في سَلامٍ وحُبٍ وحَنانٍ، بعد أن فقد المقرن حتى حميمية اللقاء.
عشنا أيّاماً في الخُرطُوم لم يكن فيها النيل هو النيل الذي نعرف، بعذوبة مياهه، وإلفة شواطئه، وحنين الناس على ضفافه، يحملون بشرى، وبشرة سمرتنا في وجوههم. وما كانت الخُرطُوم خرطوماً، عندما كان ابن ال17 عاماً يقف على حافلته صائحاً السوق العربي.. السوق العربي الخرطوم.. وهناك من يعجز من أن يغالب أشواقه وهو يسمع أم درمان المحطة الوسطى.. وأم درمان مدينة أشواق، خُلقنا لنكون في حضرتها دراويشَ، وكل البيوت فيها ميدان المولد القديم، كل البيوت فيها ميدان الخليفة عبد الله.. وكلنا فيها (هلال.. مريخ.. موردة).. ما كان يطربنا غير أن نسمع منه منادياً للركاب: إستاد الهلال، إستاد الهلال، وقد كان يدفعنا حُبنا للهلال أن نستقل الحافلة المتجهة لإستاد الهلال حتى إذا كنا نريد الذهاب إلى الحاج يوسف أو الكلاكلة اللفة.. قبلتنا فيها دائماً إستاد الهلال.
وآخرٌ يصيح على مركبته: بحري.. بحري المحطة الوسطى، حيث تمثل بحري عندنا النجاة والحنين الذي لا ينتهي ولا ينقطع عنها، ومن هناك يأتي صوتٌ أكثر حِدّةً السوق الشعبي، يُقاطعه من هو أكثر منه بدانةً سوق ليبيا.. سوق ليبيا.
وبين هذا وذاك يدفعنا تنافسٌ حميمٌ عندما نسمع كلمة (نفر)، فنتسابق على مقعد واحد، يحمل عشرة أشخاص، لأنّ النوايا كانت طيبة.
كل هذا الحنين يعُود من جديد ليعيد للخُرطُوم شغفها المفقود، و(شليلها) الرائح.
قبل ذلك، نسعد لعودة النظام والقانون وانتهاء الفوضى ومن دخل الخُرطُوم فهو آمنٌ.
عادت الخُرطُوم، فعادت للأشياء طبيعتها، فرحة طفلة كانت تدس ابتسامتها في ثنايا الدروس، وحكمة رجل كان يَتَوَكّأ على كتف غيره، وقلق شاب كان ينتظر حافلة الحاج يوسف.
عادت الخُرطُوم، فرجع لضل المقيل امتداده الطبيعي بعد أن (شفشفوا) حتى الضل، وأصبح ضل المقيل بلا ضُل!!
عادت الخُرطُوم، فعادت للشاي أبو لبن (قنانته)، ولأُم فتفت (بصلتها) المفقودة، و(شطّتها) الحَارّة، ولصينية الغداء (لَمّتها) التي كانت قد تفرّقت بين النزوح واللجوء، ومن بقي منا حَرد الغداء أو حَرده الغداء، عندما كان لا خيار لنا غير العدس!!
عادت الخُرطُوم، فعادت لأغنيات عثمان حسين ألحانها للأيام (عشرتها) ولحبنا (قصتنا)، ولحكاوينا (شجنها)، ولفراشنا (حيرته)، ولدنيانا (ربيعها)، ولقبلتنا (سكرتها)، ولنيلنا سليل الفراديس (فردوسه المفقود) عدنا مرةً أخرى نترافع ب(كيف لا اعشق جمالك)، و(لا وحبك لن تكون أبداً نهاية)، و(ريدتنا ومحبتنا)، و(أنا مالي والهوى)، و(حارم وصلي مالك).
عادت الخُرطُوم، فعاد (الدافوري) بغلاطه وجدله، وقوون مغربيته عادت (الإعلانات) قبل المسلسل تنتظر، ورجع (عالم الرياضة) من إذاعة أم درمان من جديد يترقّب، وأصبح الدعاء يُستجاب، فليس بيننا وبين السماء حجابٌ في سماء الخُرطُوم الصافية.
عادت الخُرطُوم، فصلوا ركعتي الرغيبة في خشوع وطمأنينة، حاضراً في سكنات الفجر تنفلاً، وعادت الأخلاق التي نعرف، ليقوم الشاب عن مقعده في الحافلة لمن يكبره سناً، وليُعلن في الحفل عن فاصل للبنات وفاصل للأولاد، وليعود بين الناس من يقدم صدقته في الخَفَاء، الذين لا تعرف شمائلهم ما قدمت إيمانهم.
الخُرطُوم تعود الآن لنسمع كابليها وهو يغني (وحاة عينيا سُكّر)، ويغني حسن عطية بعنجهيته المعروفة لزهور الخُرطُوم وللمقرن (في المقرن نشوف الأزهار صفوف والنيل حولها كالعابد يطوف)، وكذا يفعل العميد أحمد المصطفى وهو يغني للقيا في الشاطئ عند الملتقى، وسيد خليفة يغنينا لجمال الخُرطُوم، أما أحمد الجابري فقد اختار أن يغني لملك الطيور في حديقة الحيوان.
أنت في الخُرطُوم ابتسم.
ها هي الخُرطُوم تعود إلينا بعد أن فقدت براءتها واُغتصبت سلامتها، فعادت الآن مُعافيةً من أي سُوءٍ. عادت الخُرطُوم في جنون النور الجيلاني عندما كان يغني منها لجوبا ولكدراوية ومرت الأيام حبيبي ولسه ظالمنا الزمن، وجانا العيد وانت بعيد، وكان الحوت محمود عبد العزيز يمارس فيها أقصى حالات الفنون ما بين مفرحته ومذهلته ومدهشته.
إنها الخُرطُوم يا سادة نسير فيها بترجمان احتراماً وتقديراً.
الحمد لله أننا شهدنا انتصار الشعب وانتصار الجيش وفي توافق الشعب والجيش انتصارٌ للوطن، فأخرجوا من تلك الانتصارات إلى سودان حُر، يسع الجميع، لا يضام فيه أحدٌ ولا تظلم على أراضيه حتى بغاث الطير.
في أواخر شهر رمضان قبل الماضي، رمضان 1444ه، عندما كان الناس يترقّبون هلال شوال، وكانت الدنيا قبائل عيد، أُطلقت أول رصاصة في حرب السودان في العاصمة الخُرطُوم، رصاصة لم يقصد منها غير الخراب والدمار، وفي رمضان الجاري 1446ه يبدو أنها سوف تكون الرصاصة الأخيرة التي نسمع صوتها في الخُرطُوم أو هي فعلاً كذلك.. حيث بدأت الحرب اللعينة في صراع على (القصر الجمهوري) الرئاسي، وانتهت بصراعٍ على (منزل المواطن) المسكين، السوداني المغلوب، حيث دخلت الحرب بيت أيِّ سوداني، دخلت الحوش والغُرف والمطابخ، ولم تسلم منها حتى الحمامات، فقد كانت الحرب، حرباً على كل شئ، حرباً كان الهدف منها النهب والسلب، والإذلال وهذا في اعتقادي كان أخطر ما فيها، ظهر ذلك في سلوكهم مع المواطنين وفي نهبهم لثروات السودان، ذهبه ومحاصيله الزراعية وثروته الحيوانية، وبنيته التحتية التي لم تسلم فيها حتى أسلاك الكهرباء، إلى أن وصلوا إلى أثاثات المنازل وعِدّة المطبخ، (لم تفلت منهم ملعقة شاي واحدة)، دخلوا صندوق الرسائل وتطبيق بنكك، وفوري وسرقوا حتى رقم الحساب، كل هذه الثروات نُهبت جهاراً نهاراً.. اتّجهوا إلى البنوك والصرافات الآلية لسرقة العُملات والودائع، ووصلوا لجيب المواطن السوداني المغلوب على أمره، لتجريده من حَق الدواء وهو في طريقه للصيدلية لشراء حُقن الملاريا أو حبوب الضغط.
لقد شهدناهم في البدء، ينهبون الغث والسمين من ذهب وسَيّارات وموبايلات وأموال، فانحدروا إلى أن أصبحوا في آخر أيامهم بعربة مقاتلة وسبعة مسلحين يأتون ويُفجِّرون من أجل سرقة نص كيلو سكر أو ربع كيلو عدس، فما كانت هنالك ذلة وضعف لهم أكثر من ذلك!!
شاهدناهم عندما كانوا يذلون المواطن ويضربونه وينالون منه بازدراءٍ وعُنفٍ، وشاهدناهم وهم يخرجون من البيوت والأحياء أذلةً، مُنكسرين، هاربين، يتسلّلون خِيفةً، بعد أن دخلوا القُرى والمُدن والبيوت فأفسدوا فيها أيّما إفساد.
كأن قصاصنا منهم يؤخذ جبرةً وعزةً، بعد أن انتقل إليهم الخوف والذُّعر والهلع، بعد أن كانوا يسببون ذلك الرُّعب للمواطن المُسالم والذي لا حول له ولا قوة غير إيمانه ويقينه، ولا شك أنّ في ذلك كل القوة.
بعض الروايات تتحدث عن أن ملتقى البحرين الذي جمع بين العبد الصالح وسيدنا موسى عليه السلام كان مقرن النيلين، والله أعلم، نحسب فينا عبيداً صالحين، وقد شاهدنا من يتلف عربته ومن يشلِّعها حتى يصرف الجهة الباغية والمتفلتة من سرقتها وأخذها غصباً كما حدث في سفينة المساكين التي خرقت خوفاً من الملك الظالم:
(فَ0نطَلَقَا حَتَّىٰۤ إِذَا رَكِبَا فِي 0لسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيًۡٔا إِمۡرࣰا) [سُورَةُ الكَهۡفِ: 71].
كان أهل السودان بهذا العلم والحكمة والصلاح، كأنهم يعيدون التاريخ.
(أَمَّا 0لسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي 0لۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاۤءَهُم مَّلِكࣱ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبࣰا) [سُورَةُ الكَهۡفِ: 79].
أخطر من ذلك أنهم عملوا لتدمير نسيجنا الاجتماعي وسلمنا الداخلي، بعيداً عن البيوت والسيّارات والأموال والجوالات السيارة، فما سلمت منهم حتى النوايا الطيبة والدواخل السليمة.
حاولوا طمس تراثنا وإرثنا وثقافتنا، حيث أُتلفت المتاحف وطُمست الإذاعات والتلفزيون القومي، وقابل ذلك مطابع جديدة، تصدر العُملة السودانية والأرقام الوطنية وشهادات البحث.
كانوا ضد أي شئ قومي، العاصمة (القومية)، حيث لا ذنب لها غير (قوميتها).. دمّروا الإذاعة (القومية) والتلفزيون (القومي) والمسرح (القومي) والنشيد (القومي) والزي (القومي) والعُملة (القومية) والمطار (القومي) والمتحف (القومي)، لم تسلم منهم (قومية) واحدة، كل ما يربط السودان بالوحدة والقومية قصدوا تدميره، بما في ذلك الهلال والمريخ، ومنقو قول لا عاش من يفصلنا.
الحرب على نسيجنا الاجتماعي كانت أخطر، والضرب على وحدتنا كانت أعنف، ما فقدناه في هذه الحرب ثقافياً أكثر كثيراً مما فقدناه مادياً.
هكذا بدأت الحرب، يرفع فيها الدعم السريع شعار الحكومة المدنية والمواطن يُحرم حتى من أداء صلواته في الجامع، كانوا يرفعون شعار الديمقراطية ويصادرون تلفونك إن وجدوا فيه تعليقات عن الحرب أو لم يجدوا، فيخترعوها لمُصادرة هاتفك الجوال، في الوقت الذي كانت قوات الدعم السريع تنادي بالحريات ويدّعي حميدتي أنّه يقاتل من أجلها، كان حقك في الحرية في الدخول لمنزلك أو الخروج منه مسلوباً.
من المُفارقات أنّ حميدتي ظنّ أنّ نصرة الهامش تتمثل في تدمير المركز، وأنّ عودة الديمقراطية مُمكنة بالدبابة، وما كانت الدبابة إلّا لإجهاض الديمقراطية!!
الذي يغيظ في هذه الحرب، أنّ حميدتي ظلّ طوال الحرب يُنادي بالحريات، في الوقت الذي تسلب فيه قواته حرية الدخول في شبكة الإنترنت، وكان حميدتي يدعو للسلام، في الوقت الذي يمنع بين الناس حتى التحية بالسلام، مُفارقة أن ينادي حميدتي بوحدة السودان، وأن يُحذِّر من تقسيم السودان وهو الذي يفعل ذلك، يُحذِّر من الحرب الأهلية وتقوم حربه على عناصرها.
ونحنُ في هذا التاريخ والخُرطوم تعود، ونؤكد ولا نساوم ولا نجامل ولا نركب الموجة، كما يفعل الذين كانوا يركبون أيِّ موجة قوية، مازلنا نتمسّك بموقفنا وندعو له وهو (لا للحرب)، لا للحرب مليون مرة، هذا هو مبدأنا الذي لن نتزحزح عنه، سوف نظل ندعو للسلام، ولا نزايد عليه رضي من رضي وغضب من غضب، فنحنُ ليس كتّاب سلطة ولا سعاة مناصب، لا نبغي غير مصلحة الوطن والله على ذلك شهيد، نؤكد مجدداً بعزيمة أقوى مع كل الابتلاءات والجراحات التي أصابت الجميع، أنّ أعظم ما يمكن أن نبني به السودان هو (العفو)، وأنّ سبيلنا للخلاص هو (السلام)، وأنّ بناء الوطن وعماره لن يكون بالكراهية ولا بخطاب الاستعراض الميداني الفارغ الذي لم يقصد أهله إلّا رفع أرصدتهم في البنوك، والحساب مكشوف.
نقولها في هذا التوقيت الصّعب، لا للحرب وننقل فرحة هذا الشعب بانتصارات جيشه بأمانة وصدق ودون مُهادنة أو أمر تحرُّك.
لا نخترع ذلك من سلة المهملات، ولا نأتي به من بنات أفكارنا، هذا هو ما يدعو له ديننا الحنيف إن كنا فعلاً نعرف قيمة هذا الدين وندرك ماهيته.
كفى أنّ أعظم دعوة في هذه الأيام الكريمة هي (اللهم إنك عفو تحب العفو فأعفُ عنا)، هكذا طالب المصطفى صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين السيدة عائشة.
كلما كان الضيم كبيراً والظلم أعظم، كان العفو أجمل.
يقول تعالى: (خُذِ 0لۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِ0لۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ 0لۡجَٰهِلِينَ) [سُورَةُ الأَعۡرَافِ: 199].
لا تغرنكم هذه الحسبة السياسية، تخيّلوا أنّ من أزواجنا ومن أولادنا يمكن أن يخرج العدو لا تحسبوها حسبة (عنصرية)، يقول تعالى مثمناً من العفو أيضاً: (يَٰۤأَيُّهَا 0لَّذِينَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰ⁠جِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوࣰّا لَّكُمۡ فَ0حۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُوا۟ وَتَصۡفَحُوا۟ وَتَغۡفِرُوا۟ فَإِنَّ 0للَّهَ غَفُورࣱ رَّحِيمٌ) [سُورَةُ التَّغَابُنِ: 14].
في القرآن الكريم تكررت عبارة (غفور رحيم) 66 مرة وتكررت عبارة (غفور حليم) 16 مرة، وتكررت عبارة (غفور شكور) 3 مرات، وجاءت عبارة (الغفور ذو الرحمة) مرة واحدة، وقد يكون فاتت عليّ بعض الإحصاءات والله أعلم، غير أنّ الكثير من الآيات كانت تدعو للرحمة والمغفرة وهي من صفات الله عز وجل وهي أسماء من أسمائه الحسنى، فماذا بعد ذلك.
اللهم أحفظ السودان، أراضيه وأهله، وحدته وأمنه، شعبه وجيشه، ولا للحرب، نعم لسودان موحد وجيش واحد.
يبقى لنا أخيراً أن نشهد للقوات المسلحة أنها عملت من أجل وحدة أراضي السودان، ووحدة شعبه في صبر وحكمة، وأن تمهُّلهم الذي كنا نلومهم عليه، ما كان منهم إلّا حُسن تدبير وتخطيط من أجل حفظ الدماء وحقنها، وهو المطلوب، عملوا بكدٍّ وجهدٍ من أجل أن ينأوا عن (العنصرية) التي كان الطرف الآخر يدفعهم إليها، وكانوا لا يستجيبون إلا ممن هم ملكيين أكثر من الملك، لهذا كانت القوات المسلحة، ولهذا ننادي بقوميتها التي عُرفت بها القوات المسلحة رغم كل الظروف من المحافظة عليها.
يبقى شهداء الوطن أفضل منا جميعاً، لذا فلا كلمات يمكن أن توفِّيهم حقّهم، هم أحياءٌ عند ربهم يرزقون.
نسأل الله أن ينعم على كل المناطق والأراضي في دارفور وغيرها بالأمن والجيش، وأن يكون لهم من الفرح ما كان للخُرطوم التي دفعت ثمناً غالياً في هذه الحرب اللعينة.
…..
متاريس
في ليلة مباركة، نحسب تنزّل الملائكة فيها بأمر ربهم صعدت روح صديق أحمد، الذي كان كأنه ينتظر عودة الخُرطوم وتحريرها بالكامل لتنتقل نفسه المطمئنة إلى الرفيق الأعلى.
صديق أحمد الذي غنى مشتهيك أنا يا بلد:
مشتهيك أنا يا بلد
وليك راجع لا محالة
بعد ما حرّرت نفسك
من قيودك في بسالة
بعد أن طهّرت أرضك
من نواميس العَمَالة
صديق أحمد رحل بعد أن تحقّق له ذلك.. اللهم أرحمه وأغفر له وأسكنه فسيح جناتك.. اللهم أعتق رقبته من النار فقد رحل في ليلة مباركة تُعتق فيها الرقاب.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
…..
ترس أخير: أقفلوا القوس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.