*قال من كان يمشي معي – بالصدفة – (يا أستاذ نحنا ماشين وين؟!).. *فانتبهت ؛ فإذا هو شابٌ ينضح وجهه أسىً… ويأساً.. *فانفلتت من فمي عبارةٌ لم تأخذ دورتها داخل عقلي (ونحنا ماشين من أصله؟!).. *ثم اخترق نظري وجهه ؛ واخترق عقلي المكان والزمان.. *وأوجداني في زمان بعيد – وأنا صغير – أجهد عقلي لفهم أشياء ذات صلة بالمشي.. *وإلى يومنا هذا – وأنا كبير – ما زلت لا أفهم.. *ومنها حكاية جدتي لأمي – ابنة ساتي فقير – مع (مساكنتنا) الطيبة ؛ طيبة النفوس.. *أو حكايتهما هما معاً مع مشيٍّ على درب (لا يمشي).. *وربما العكس صحيح ؛ بمعنى أن الدرب كان يمشي وهما لا… فهو إشكال غيبي.. *وإيليا أبو ماضي جعله إشكالاً فلسفياً في قصيدته الطلاسم.. *فقد أنشد متسائلاً : وطريقي ما طريقي… أطويل أم قصير.. هل أنا أصعد……. أم أهبط فيه وأغور.. أأنا السائر في الدرب… أم الدرب يسير.. أم كلانا واقف……….. والدهر يجري.. لست أدري… *وربما كانت جدتي تطرح الأسئلة هذه ذاتها وقتذاك… ولكن بلغتها النوبية الرصينة.. *فقد كانتا – هي وطيبة – راجعتين من الغيط عصراً.. *وظلتا تمشيان على الدرب – أو هو الذي يمشي – إلى أن جن عليهما الليل.. *ثم انتبهت فجأة إلى العرجون الذي تحمله رفيقتها بيدها.. *فلما سألتها عنه قالت إنها انتزعته من نخلة (مطرِّفة) مرا بها عند حدود السواقي.. *فرجتها أن تلقي بها… وكان محض رجاء يائس.. *ولكنها فوجئت بانتهاء سؤال : أهما سائرتان أم الدرب يسير؟!…. و وصلتا.. *ولكن السودان ظل يسير لأكثر من ستين عاماً… ولم يصل.. *فهل هو يسير؟… أم الدرب الذي يسير؟… أم كلاهما واقف والدهر يجري؟!.. *أم تُراه يسير إلى الخلف مثل سيارة قُرقار… الجيب؟.. *فقرقار هذا كنا نزف عربته بأهزوجة (يا قرقار… فولك حار… فيه الشطة والشمار).. *وفجأة حلت الحيرة محل الطرب لما رأيناها تسير (عكساً).. *كان يمشي بها – أو تمشي هي به – في اتجاه الخلف أياماً… جراء عطلٍ ما.. *ولكنه – على أية حال – كان يصل… ولو بكثير جهد.. *وحين عاد نظري – وعقلي – من رحلتهما الماضوية هذه انتبها إلى الدرب.. *ثم انتبها إلى الشاب الذي كان لا يزال يمشي بجوار صاحبهما.. *فقد كان في انتظار إجابة (منطقية) عن سؤاله… ولم يجد سوى إجابة (غيبية).. *إجابة انتزعتها من نخلة (مطرفة) عند حدود عقلي.. *وقلت : ربما السبب (عرجونٌ ملعون !!!).