مما يدعو الى الدهشة والاستغراب في تسيير دولاب الدولة هو تلك الطاقة الهائلة التي يبددها كثير من المسؤولين في محاولة (محاكاة) عدد من التجارب الخارجية في الشأن الاقتصادي والتنموي والسياسي والبرلماني والزراعي، دون ان يفلحوا في تقليد اية تجربة بعينها. ماليزيا كانت واحدة من الدول الشهيرة التي ضرب لها كثير من المسؤولين أكباد الطائرات ،وتجشموا وعثاء السفر للوقوف على تجربتها، مرة في تنمية الموارد البشرية(وكان كاتب السطور ضمن الوفد الاعلامي)، ومرة اخرى للوقوف على تجربتها في النهوض بالتعليم، وثالثة في مجال الطاقة..الخ، حتى ان احدهم علق ساخرا بأن عدد مسؤولينا الذين وقفوا على تجربة ماليزيا ، يفوق عدد السودانيين الذين وقفوا على صعيد عرفات. وقبل ماليزيا حاولت الحكومة محاكاة ليبيا في نظام اللجان الشعبية، وتركيا في العمارة والآثارالاسلامية، وايران والصين، في ماذا ؟ لا اذكر..لكن استوقفتني مؤخرا، تصريحات تشير الى رغبة البعض في ان تكون البرازيل هي محطة الوقوف القادمة في الشأن الزراعي والحيواني، ويحرك اشواق هذا البعض نحو البرازيل كلمات محفوظة عن أوجه التشابه الكثيرة بين السودان والبرازيل في المناخ والارض وتعدد الثقافات، وربما حب كرة القدم. من المعروف ان البرازيل حققت قفزات تنموية هائلة خاصة في عهد الرئيس السابق لولا دا سيلفا، وبلغ سيلفا من النجاح الى الحد الذي طالبت فيه شرائح واسعة من المواطنين بتعديل الدستور- الذي لا يسمح بالترشح لاكثر من دورتين(هل سنقلدهم في هذا!!)- حتى يتسنى للرئيس دا سيلفا الحكم لفترة رئاسية ثالثة ومواصلة مسيرته الناجحة. المجال الذي حصد فيه الرئيس السابق دا سيلفا نتائج باهرة هو تقليص عدد الفقراء في بلاده بصورة كبيرة، وتأمين حاجة السكان الاساسية من الغذاء بصورة دفعت مسؤول برازيلي الى القول انه لا يوجد مواطن في بلاده يعاني من الجوع. التنمية في البرازيل انعكست بصورة مباشرة على حياة معظم السكان، وشهدت الطبقة المتوسطة نموًّا كبيرًا؛ وبفعل المشاريع الزراعية والصناعية الصغيرة وتجويد التعليم ،صارت البرازيل من اكبر الاقتصاديات في العالم، وازاحت استراليا من المرتبة الاولى في تصدير اللحوم. هذا الذي حدث في البرازيل ليس مستحيلا ان يحدث شيء مثله في السودان، ولكن الموضوع لا يحتاج الى سفارة سودانية في البرازيل وملحقية تجارية، ووفود فنية تغدو خماصا من المعرفة والتجربة وتعود بطانا إلا منهما..وليس في البرازيل البعيدة سر من الأسرار في اي مجال حجب عن الشعوب والأمم ، وحازت عليه البرازيل حصريا، اللهم الا ان يكون هذا السر في كرة القدم. ويبدو اننا لسنا في حاجة اليه خاصة بعد ان دخلنا نادي الثمانية الكبار في عموم افريقيا. ليس السودان وحده، ولكن معظم الدول الافريقية لديها قاسم مشترك ما مع دولة البرازيل، ولم نسمع ان هذه الدول فكرت في الاتجاه بصورة كلية صوب البرازيل والاستغناء بها عما سواها. السودان الآن اصبح منقسما ليس على نفسه ،ولكن على أمزجة وأهواء المولعين بالوقوف على التجارب، والناقلين- بغير دربة- لما يفعله الأقوام في الهند والسند والصين والبرازيل والتركمان والباكستان. تبدو المعادلة غريبة عندما ينشيء سدودنا الصينيون، ويدربنا على الزراعة وتربية المواشي البرازيليون(أما في كرة القدم فلا غرابة)، ونفكر في استقدام اطباء أتراك ومصريين، ونتعلم صنع البقلاوة والشاورما من الشاميين، ونوظف الأثيوبيين والبنغاليين كعمالة بسيطة..ما هذه التجارب التي وقفنا عليها حتى تورمت أقدامنا ولم نستفد منها شيئا؟!