بعد أيام قليلة فقط من انتهاء الزوبعة التي أثارها أتباعه في عاصمة ولاية جنوب دارفور، وبعدما ظن كثيرون أن قصة الوالي السابق عبد الحميد موسى كاشا قد انتهت مع تلك الحرائق والمواجهات والدماء التي سالت في مدينة نيالا، قفز عبد الحميد إلى واجهة الأحداث مجدداً، عبر نافذة مطار الخرطوم هذه المرة، حينما حملت الصفحة الأولى للزميلة (آخر لحظة) خبراً مفاده أن مجموعة كبيرة منهم وزراء وبرلمانيون ورجال إدارة أهلية وشباب ونساء كانوا في انتظار عودة الرجل من القاهرة، وتدافعوا عليه حتى ضاقت بهم صالة الوصول، فتم تحويلهم إلى صالة أخرى. عبد الحميد، ليس الإنقاذي الوحيد الذي يفقد عرش ولايته، فقبله فقد كثيرون مناصب ولائية تتراوح بين الوزير والوالي، لكن معظم هؤلاء يتم تعويضهم بمراكز مشابهة في ولايات أخرى أو في المركز، بحسب قانون التحويل والتبديل والتدوير الإنقاذي الشهير، وهو قانون غير مكتوب يقضى بتقليب الإسلاميين في المناصب ابتداء من صغيرها صعوداً إلى كبيرها، كي يشتد عود الواحد منهم وتنضج خبرته ودربته، وآخر هؤلاء المحولين من منصب ولائي إلى آخر اتحادي هو زير المالية الحالي ووالي جنوب دارفور الأسبق على محمود الذي تقبل بصمت إزاحته عن منصب الوالي رغم إحرازه لأعلى الأصوات داخل مؤسسات المؤتمر الوطني تمهيداً لترشيح كاشا له، لكن ما تميز به الأخير عن بقية فاقدي العروش الولائية في الإنقاذ، أنه رفض التعويض عن منصبه القديم، واعتذر عن قبول تعيينه والياً لولاية شرق دارفور التي صنعت لتوها. إعراض كاشا العلني عن عطية المركز التعويضية، والزوبعة التي أثارها أتباعه في نيالاً، وصحبتها أعمال حرق ونهب وسقوط عدة ضحايا، وهتافات من قبيل: (عائد عائد يا كاشا)، أثارت فيما يبدو حفيظة المركز وحنقه على الرجل وأتباعه المقربين من الدستوريين ورجال الحزب الموالين له، واتضح ذاك الأمر جلياً في إفادات الرئيس الأخيرة في حواره مع الطاهر حسن التوم في برنامج (لقاء الساعة) التلفزيوني، حينما قال: كاشا أتت به جماهير المؤتمر الوطني، وحينما استلم الحكم في جنوب دارفور، وأثناء حملة الترشيح خلال الكلية الانتخابية كان لدى كاشا مجموعة تعمل له كي يكون ضمن الخمسة أو رقم واحد، وعلى محمود كان قد أعفي وأتينا بوال مكلف، والكلية الانتخابية أتت بعلي محمود لكننا رشحنا كاشا الذي كنس كل قيادات الوطني التي عينها قبله على محمود، وتوسع في تعيين الدستوريين وعين 70 دستوريا في نيالا، وهؤلاء يمكنهم أن يخلقوا رأيا عاما، ومصالحهم الشخصية مربوطة بكاشا، وإذا مضى كاشا سيفقدون هذه الوظائف، وهؤلاء من قاموا بالتعبئة، واستغلها بعض المعارضين والحركات والشماسة، وركبوا الموجة لكنها انتهت الآن تماما. وإن كانت موجة الاحتجاجات في نيالا ضد الإطاحة بكاشا قد ركبها ? بحسب حديث الرئيس ? المعارضون والحركات المسلحة وجماعة من المشردين (الشماسة)، فإن ظهور موجة ارتدادية أخرى لإعفاء كاشا، ليس في نيالاً بل في مطار الخرطوم، موجة ركبها هذه المرة وزراء وبرلمانيون وحزبيون، دفع البعض للتساؤل عما يمكن أن تؤول إليه كل تلك الموجات ومظاهر التأييد والالتفاف حول الوالي المقال، والأهم من ذلك كله المستقبل السياسي لذاك الرجل الذي يحاول البعض الالتفاف حوله: عبد الحميد موسى كاشا. تجارب من سبقوا كاشا في فقدان صفة والي إحدى الولايات، تشير إلى أنهم يبقون داخل أسوار المؤتمر الوطني التنظيمية، بل داخل حسابات قيادته وقائمة مرشحيها للمناصب التنفيذية، فعلى محمود، الرجل الذي أزيح ليتبوأ عبد الحميد مكانه، عاد إلى دائرة السلطة والنفوذ عبر بوابة وزارة المالية الاتحادية، أما فيصل حسن إبراهيم الوالي السابق لشمال كردفان، فهو الآن وزير الثروة الحيوانية، أما المتعافي الوالي الأسبق للخرطوم فهو الآن وزير للزراعة، لكن ما يميز هؤلاء وغيرهم عن كاشا أنهم قبلوا بقرارات القيادة سواء بالإعفاء أو التعيين الجديد، بخلاف عبد الحميد الذي يشي رفضه المنصب الجديد، بالكثير من عدم الرضا عن قرار إعفائه من منصبه القديم، ما يدفع للتساؤل: هل سيبقي عبد الحميد موسى داخل صفوف المؤتمر الوطني، أم سيغادر. الشائعات، تحدثت عن محاولات قامت بها بعض الحركات المسلحة في دارفور بهدف الاصطياد في مياه العلاقة العكرة بين كاشا والمركز، ودعوة الرجل للانضمام إليها، ما أعاد للأذهان ما تردد سابقاً عن اتصالات من جانب حركة العدل والمساواة بعبد الباقي على القيادي بالمؤتمر الوطني بالمناقل على أيام غضبه من المركز، لكن مقربين من كاشا يقولون إنه راغب في مواصلة مسيرته السياسية داخل المؤتمر الوطني، ولا يفكر حالياً في القفز خارج السور، صوب الحركات أو غيرها. المستشار السياسي لحكومة جنوب دارفور في عهد كاشا، وعضو المكتب القيادي للحزب بالولاية عبد الرحمن مدلل، يقول إن المؤتمر الوطني حزب مؤسسات ولن يكون هناك أي تأثير لما حدث على وضعية عبد الحميد داخل الوطني، وهو يمارس نشاطه داخل مؤسسات الحزب المختلفة بشكل طبيعي على مستوى الولاية أو المركز، ويتابع: هو الآن عضو عادي بعدما كان عضواً في المكتب القيادي ورئيس الحزب بالولاية بحكم منصبه السابق كوالي، وسيكون عضواً للمؤتمر العام القادم على المستوى الولائي والقومي بسبب تصعيده من الكليات الانتخابية، كما أن كاشا عضو منتخب في مجلس الشورى القومي للمؤتمر الوطني. رغم أن البقاء داخل صفوف الوطني يبدو الخيار الأفضل بالنسبة لكاشا، لكن مذاق هذا البقاء سيكون مختلفاً هذه المرة، حينما يصبح مجرد عضو من بين خمسة ملايين يؤكد الوطني أنها حجم عضويته، ويقول د.آدم محمد أحمد المحلل السياسي المتابع لشئون دارفور إن عادة حزب المؤتمر الوطني، ومن قبله الحركة الإسلامية جرت على إقصاء وتهميش كل من يأبى السير في خط الحزب، فمنهج الطاعة في حكم الواجب، ويتابع: كل من يشق عصا الطاعة يهمش أو يعنف، فالوطني تقوده قلة، وهي التي تطبخ القرار، ومن لا يتقرب وينصاع لمطبخ صناعة القرار يسقط من حسابات المواقع أو يتم تعنيفه، ومع أن بعض من تم تعنيفهم عادوا وقبلوا بمواقع أخرى عرضت عليهم لاحقاً، لا أظن أن وضعية كاشا السياسية والقبلية تجعله ممن يقبلون موقعاً ما يعرض عليه بعد التعنيف. مع أن عبد الحميد، أصدر بياناً عقب ما حدث أكد فيه قبوله بخط الحزب والدولة، يرى البعض في احتجاجات نيالا واستقبال مطار الخرطوم الدولي رسائل موجهة إلى القيادة، مفادها أن عبد الحميد موسى كاشا ربما تقبل مرغماً خسارة موقعه الدستوري، لكنه لن يتقبل بسهولة موقعه الجديد: عضو في حزب المؤتمر الوطني ضمن خمسة ملايين عضو آخرين، وربما الخطى التي سيخطوها كاشا في الأيام المقبلة وحدها هى التي ستكشف وجهة الرجل ومستقبله السياسي، مستقبل يرى البعض أن الرئيس قد أطلق عليه رصاصة الرحمة عبر فضائية النيل الأزرق مؤخراً!.