توهم البعض، ان كلمة «هابطة»، اقتصرت على توصيف بعض الاغاني التي يرددها انصاف الفنانين ممن أسهموا بنصيب مقدر في إفساد الذائقة الفنية للمجتمع بتوافرهم غير المرغوب فيه، في بيوتات الافراح، والفضائيات التي تتلذذ بهابط الغناء، وربما هابط المديح كذلك وأشياء اخرى تعبيء الوجدان بخلاف ما أريد له. لكن فيما يبدو فان السياسيين السودانيين قرروا الدخول إلى تلك الحلبة، ليس من باب الغناء بالطبع فاصوات غالبيتهم لا تقوى على المنافسة في هذا المضمار، وإنما من باب التصريحات التي أراد بعض الساسيين ان يصنفها في خانة الهبوط. ------------ فقد فاجأت صحف الخرطوم قراءها، بتصريحات غير مغسولة أخيراً، منها تشبيه السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي لقيادات الأحزاب السودانية «بالبعر»، قبل ان يرد حاتم السر الناطق الرسمي باسم التجمع الوطني الديمقراطي على تلك التصريحات ويصفها ابتداءً بالهابطة، الامر الذي يدفع الى البحث في مدى تعبير تلك «التصريحات الهابطة» عن التنافس السياسي المكتوم الذي تشهده البلاد، ومدى اشارتها الى متغير جديد في الصراع السياسي، بعد سكبت تلك التصريحات غير القليل من الدهشة في كأس حيرتنا مما يقوم به السياسيون. وبقراءة محايدة للحوار الذي اجرته صحيفة «الشرق الاوسط» في الايام الفائتة مع الصادق المهدي، ورشحت فيه تلك التصريحات الموسومة بالهبوط، فاننا نجد ان ما ذهب اليه المهدي كان في معرض رده على تساؤل اتهامي تقليدي عن غياب الديمقراطية داخل الاحزاب السياسية السودانية، وبقاء زعمائها على سدة القيادة لما يزيد عن «53» عاماً في تناقض بائن بين ما ينادون به من ديمقراطية وبين تغييبهم لها داخل احزابهم. لكن الاجابة التي خرجت من الصادق المهدي اوقعته في فخ لم ينصبه له ذلك الصحفي الذي أجرى معه الحوار والذي ربما تفاجأ هو الآخر بالعنف اللفظي في رد المهدي عندما قال: «يجب ان نسأل اولاً هل هذه القيادات منتخبة أم لا، وهل هذه القيادات تنبض ام ميتة، وزاد، انا انتخبت آخر مرة في حزب الامة 2002م، ولا يمكن ان تضع «بعرة» و«درة» وتقول هذا شيء واحد لازم نعمل مقاييس». وعلى ذات القياس، قال حاتم السر في البيان الذي عممه على الصحف بعد ان فهم فيما يبدو بان رئيسه محمد عثمان الميرغني في غير فريق الدرة، قال: «ان هجوم المهدي وتطاوله على قيادات الاحزاب السودانية غير مبرر، وان تصريحاته الهابطة لا تمس هيبة من أطلقت بشأنهم، بل إنها ستنال أولاً من مكانة من أطلقها». وتبرز مثل هذه التصريحات الهابطة الى السطح عادة في بعض المنعطفات السياسية، فالحديث عن قادة في قيمة «البعر»، يربط البعض بينه وبين إتفاق التراضي الوطني من جهة، وبين زيارة الصادق المهدي إلى لندن الاخيرة وما صحب ذلك من مظاهرات رافضة لإتفاق التراضي هناك. وفي سياق ذي صلة، ألمح حاتم السر إلى ان تلك المظاهرات هي ما دفعت المهدي للتطاول على قيادات الاحزاب على حد قوله، قبل ان يدين لغة الصادق الاخيرة التي تحدث بها، ويصفها باللغة التجريحية، والطريف ان السر وبعد ان كال بميكالين الكثير من الردود الجارحة، قال: «لن ننجر إلى مستوى تصريحات رئيس حزب الأمة لأن هذا المستوى ليس مستوانا» أو كما قال. ويذهب محللون إلى ان هذه اللغة تعبر عن شكل المواجهة القادمة، وتدل على تدهور في مستوى العمل السياسي، حيث وصل بعض السياسيين الى مرحلة الفجور في الخصومة بعد ان تحول الصراع في كثير من الاحايين من سياسي، إلى صراع ذي طابع شخصي اثر تولد الكثير من الغبن في صدور البعض بضيق قنوات التفاهم السياسي مما جعل حلبة الصراع متجهة الى عنف لفظي اشد قسوة ربما. وعزا بعض المراقبين - اطلاق مثل تلك التصريحات التي توصف بالهابطة - إلى طول الفترة التي قضوها في المعارضة، لدرجة ارهقت كثيراً قيادات الأحزاب، وافقرتهم كذلك، حتى اضحت تلك القيادات لا تحتمل بعد ان تعكر مزاجها في المعارضة، في وقت يفترض ان يكونوا اكثر قدرة على السيطرة على تفلتاتهم واعصابهم لان السياسة قائمة أساساً على السيطرة. لكن المتابع للمشهد السياسي يلحظ ان الشريكين الحاكمين «الوطني والشعبية» شكلا اسهاماً في هذا الضرب من التصريحات. وليس بعيداً عن الاذهان ما قاله القيادي بالحركة الشعبية ومسؤولها في أبيي ادوارد لينو عندما وصف ردة فعل المسيرية على تعيينه بإقامة حكومة موازية برئاسة محمد عمر الانصاري بأنها «صعلكة سياسية». وكان قد قوبل تصريح ادوارد لينو، بآخر أكثر تبرجاً من سابقه من مسؤول كبير.. و سبق ادوارد لينو مسؤول ولائي عن الحركة الشعبية تحدث عن دعارة سياسية تمارسها الصحافة. وان جاء التناطح اللفظي الاخير للسياسيين بعيد اتفاق التراضي، فقد اعقب توقيع اتفاق أبوجا قبل نحو عامين تقريباً عنف لفظي غير مسبوق ممن ينطلقون من منطلقات ومناصب سياسية كبيرة، على نحو اشار وقتها الى متغير جديد في الصراع السياسي تعبر عنه لغة غير منضبطة من «الكبار» الذين يفترض من الناحية النظرية على الاقل، انهم يحافظون على الانضباط في كل البلاد. ومن تلك اللغة الملوثة، كانت هناك غير القليل من الشتائم التي ابتدرها الدكتور عوض احمد الجاز لرافضي إتفاق ابوجا - الجديد وقتها- وقال: كل من يصف اتفاق أبوجا بالنقص فهو «ابن حرام» فعلق علي محمود حسنين نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي ساخراً على حديث الجاز بقوله: «ان كل الشعب السوداني يقولون بنقصان أبوجا..»!!. وفي السياق ذاته وصف يوسف حسين الناطق باسم الحزب الشيوعي، اتفاقية ابوجا بأنها «ابنة سفاح» اي انها جاءت نتاجاً لعلاقة غير شرعية بين الحكومة وحركة تحرير السودان جناح مني. اما الصادق المهدي فقد اكتفى بالاشارة الى حجم الضغط الذي تعيشه الحكومة قائلاً: «ان الحكومة اخرجت رائحة شبيهة بتلك التي يخرجها أبو العفين عندما يحاصره الخطر».. هذا إلى جانب تصريحات سياسية اخرى نقلتها صحف الخرطوم إلى القراء الذين طالعوها بإستغراب وبإمتعاض معاً. ومهما يكن من أمر، فان ثمة حاجة ملحة فيما يبدو لضبط الخطاب السياسي حتى لا يخرج التعبير عن المزاج العام الذي تعارف الناس على تجنب الاساءات فيه، وحتى لا يغرق السياسيون في بحر من الاسفاف، ومفارقة المنطق في ايراد الحيثيات والكلام الموضوعي، من باب اسعاد النطق بعد ان خلا جرابهم من خيل يهدونها إلى قواعدهم أو مالٍ.