في طفولتي في النصف الاول من ستينات القرن الماضي لم أجد من يفهمني ما يقوله ابراهيم عوض (أبو عيون كحيلة جميل الصفات دقائق قليلة سحرني وفات)، فالمشكلة كانت كيف يسحر جميل الصفات، فالسحّار المعروف لدينا هو الذي يأكل الآخرين وكانوا يهددونا به اذا خرجنا من البيت بعد الغروب او رفضنا العشاء وفيما بعد فهمنا ان السحار هو صاحب (العين الحارة)، فكم سمعنا أن فلاناً سحار وفلانة سحارة، وكم اخذنا الى الفكي لكي يخرج مننا العين التي اصابتنا، وإلى أن كبرنا وكبرت أحزاننا فعرفنا الجمال الذي يسحر وكيف ان العيون الواسعة الجميلة تجعل الواحد (يقع ويقوم)، ثم تقدّمت بنا الايام وخرج سحر الجمال من قاموسنا وأصبحنا لا نفرق بين العيون (المعمشة) والعيون الكحيلة وكلو عند الكهول صابون.. ولكن للأسف عادت لنا كلمة سحار في ثوب جديد ويبدو ان قدرنا ان تصبح كلمة الساحر أو السحار ملازمة لنا طالما اننا (هابين على وش الدنيا). مناسبة هذه الرمية ما حكاه لي صديق (كاف) عن معاناته عندما تفتح المدارس اي عندما تنتهي الاجازة وتنزل على يافوخه طلبات أولاده، التي لا تنتهي بدءاً بالملابس والكراسات والشنط وبعض الكتب ثم مصاريف المدرسة، وهذا يصعب تسميتها هل هي رسوم أم تبرعات أم دقنية ثم تكاليف الحصص الاضافية الاجبارية وفي الاقاليم تُسمى دروس العصر (فالمعلمون أصحاب الدخول المتدنية) في المدارس ارادوا هم الآخرون ممارسة سياسة الاستنباط، فالمساكين ليس لديهم بوليس يرافقهم في عملية الجباية وليست لديهم مجالس تشريعية لكي يصدروا قوانين محلية لذلك يراهنون على عاطفة الابوة ويأخذوا الفيها النصيب، المهم في الامر ان هذه التكلفة التي ُتجابه الآباء عند (فتح المدارس) جعلت صديقنا كاف يسمي اطفاله سحاحير المدارس مثلما كانت والدته تخوفه كل مساء من السحار، اصبح هو الآن يخاف كل صباح من رؤية اطفاله وهم يهمون بالذهاب الى المدرسة، لان الامر يتطلب منه ادخال يده في جيبه المسخن، أما سخانة الجيب فهي اشد من لدغة العقرب، فيا سبحان الله كيف تحولت زينة الدنيا الى كائنات مخيفة (ملعون ابو الفلس). الغريب في الامر ان الدولة ممثلة في الادارات التعليمية تصدر أوامرها المشددة لمديري المداس بعدم طرد اي تلميذ عجز عن دفع المصاريف وتعلن ذلك من خلال أجهزة الاعلام، ولكنها في نفس الوقت لا توفر لهؤلاء المديرين الحد الادنى من متطلبات العملية التعليمية، لدرجة أن المدرسة أحياناً تطالب التلميذ بأن يحضر معه الكرسي والدرج، وبالتالي يتحول المدير نفسه إلى سحار يمارس كل الحيل بدءاً بالتحانيس والتشجيع المعنوي، لكي يتبارى التلاميذ في الدفع، وانتهاءً بكسر الخاطر بالتشنيع واعلان اسماء غير الدافعين في الطابور، ثم استدعاء ولي الامر، لقد اصبحت قدرات المدير التحصيلية من العوامل التي تبقيه وترقيه أو تركبه التونسية، خلاصة قولنا هنا ان تقصير الدولة في واجبها نحو التعليم جعلت المجتمع هو الذي يقوم بهذا الدور و(بالعضل)، ولعل هذا من الأسباب الخفية التي جعلت الدولة تشجع التعليم الخاص، حيث تتراوح التكلفة من عشرات الملايين في السنة الدراسية الواحدة الى المليون والمليونين (طبعاً بالقديمة)، فأصبح المديرون يقرعون تلاميذهم قائلين: (يا ابني الناس بتدفع الملايين لتعليم اولادها ابوك ما قادر يدفع الشويتين ديل).