إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تعليل. ما يجري)    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض الرحيق المسكوب ... فى رثاء الدكتور مجذوب

ما أسرع الأيام فإنها تنقضى ، وما أسرع الشهور فإنها تمضى ، وما أسرع السنون فإنها تتآكل، نسير الى آجالنا وآجالنا تسير إلينا فما أسرع اللقاء .. قبل نحو عام وفى هذا الوقت إفتقدنا الدكتور مجذوب الخليفة الذى جاء يافعًا من ذلك الرحم الخصيب ولاية نهر النيل فكان نسيجًا وحده فى التعاطى ، كان متفردًا فى بذله وعطائه .. وكان مخلصًا فى أداء مهامه.. وكان جاهزًا لكل المناصب وكان متأهبًا لخوض كل المعارك لا يرفض تكليفاً أبدا (ولا يحرد) على فوات منصب .. قال عنه السيد رئيس الجمهورية إنه كان يحضر ثلاثة إجتماعات فى وقت واحد وما ينجزه دكتور مجذوب فى يوم لا ينجزه آخرون فى أسابيع .. وقال عنه السيد عبد الرسول النور إن الفقيد جاء إليه فى أطراف المدينة متفقدًا أحواله وشارحًا له رسالة الإنقاذ وحاجة المشروع الحضارى لكل الرجال بغض النظر عن تصنيفاتهم الفكرية والآيدولوجية وقال إنه كان يغشى الوغى ويعف عند المغنم.. وقال السيد الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية فى مقاله المؤثر عن الفقيد الراحل د.مجذوب : كُلف د. مجذوب وأُعفى من مواقع عديدة فما كان يتوقف كثيرًا عند موقع أو مصلحة ، كان شعاره أرمى قدام، وعندما كان واليًا للخرطوم وتقرر إعفاؤه وتعيينه وزيرًا للزراعة كان الفقيد عليه رحمة الله فى المملكة العربية السعودية لأداء العمرة ، وبتوجيه من القيادة تم تكليف الدكتور مصطفى عثمان أن يخطر الفقيد فى السعودية بقرار إعفائه من ولاية الخرطوم وتعييه وزيرًا للزراعة حتى لا يسمع ذلك فقط عبر أجهزة الإعلام ، فقام الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل بإخطار الفقيد د. مجذوب وهو فى السعودية ، فرد عليه الفقيد ضاحكًا : شوف يا مصطفى أنا إختصاصي بتاع جلدية يعنى ممكن أزرع شعر .. قول للسيد الرئيس نحنا جاهزين لأى موقع وأرمى قدام.. وإنتقل الفقيد الى وزارة الزراعة فكان من أنجح الوزراء الذين تعاقبوا عليها.. وبمداد من أسى كتب عنه جلال الدين يوسف الدقير، وكتب عنه قادة العمل الصحافى السادة كمال حسن بخيت وحسين خوجلى (تعجز الأنجم فى إمتحان البريق.. وتفشل الأحرف فى معاينة الفصاحة) وأحمد البلال الطيب وكتب عنه عمر موسى محمد الأمين المحامى وصادق عبد الله عبد الماجد ود. بشير رحمة ورثاه الشاعر الفذ شاعر السبلوقة حجر العسل البلولة حاج الأمين وآخرون.. وكُثر هم الذين سال رحيق أقلامهم وكتبوا ونظموا فيه عناقيد من جواهر الكلم الرصين بعد مخاضٍ عسير للأحرف التى إشتمت أريج الشهادة وهول الخبر ووزن الرجل فامتنعت وتعسرت فقفزوا فوق الجراح فانتزعوها إنتزاعاً حصيفاً مقتدراً وصاغوها وساقوها إلينا سوقًا هينًا حتى لا ننفر من هول الخبر وحتى نعود الى الحقيقة الدائمة حقيقة الموت وما الموت والحياة إلا إبتلاء لبنى الإنسان.. فكان حديثهم مترعًا بالحب والخير والصدق والحق .. وفى يوم الجمعة 27/ يونيو 2008 وفى ليلة حزينة بقاعة الصداقة فى حفل تأبين الراحل د. مجذوب وبمناسبة مرور عام على رحيله قال ابنه المهندس محمد مجذوب بعد كلمة عميقة عمق الجرح نفسه قال: لا أعدكم بأننى سوف أكون مثل الدكتور مجذوب ولو قلت لكم إننى سوف أكون مثله لابد أننى سوف أحتاج الى ألف مجذوب.. وقال عنه شاعر طيبة الخواض الأخ عوض محمد بله: ? قبائل الدولة جت مجذوب خريفن وسيلن ? سايم دمو لى همو وعقيد راس خيلن ? مواعين الكرم من إيدو زايد كيلن ? المحن الكبار بعرف دروب حلحيلن ليس لدىَّ ما أضيفه على سيرة الراحل المقيم د. مجذوب فالجبال لا تزيد بإلقاء حجر أو حتى أحجار عليها والبحر لا يزيدُ بزيادة قطرة أو قطرات .. لكن تمر علينا ذكراه فى هذا الشهر شهر يونيو فلابد من قول كلمة فى حق فقيد الأمة السودانية الدكتور مجذوب الخليفة فأقول : دخل الناس على الصوفى المعروف بشر الحافى فى يومٍ شديد البرد، ووجدوه قد تجرد من ملابسه وهو ينتفضُ من شدة البرد .. فقالوا ما هذا يا أبا نصر ؟ فقال تذكرتُ الفقراء ومقاساتهم لهذا البرد وليس لدىَّ ما أواسيهم به فأحببتُ أن أواسيهم فى بردهم.. أقول هذا وأنا أنظر الى أبناء الراحل المقيم الدكتور مجذوب الخليفة وليس لدىَّ ما أواسيهم به غير هذه الكليمات التى أيضًا أسوقها وهى عصية.. وأركضُ خلف الحروف لجمعها وهى نافرة.. وأصيدُ وأتصيَّدُ حسان التعابير وهى جافلة، وشرودها ليس لعيبٍ فيها ولكن لعلمها أنها دون مقام الراحل المقيم دكتور المجذوب، فتعجبتُ لهذا .. وإزددت عجبا حينما ذكر الدكتور غازى صلاح الدين مستشار السيد رئيس الجمهورية ، أنه زامل الفقيد ردحًا من الزمان فى غرفة واحدة ولم يعرف هيئة لنومه، بل كاد يجزم أنه لم يجد الفقيد نائمًا قط .. وأقف تقديرًا وإحترامًا وأحيِّي تواضع الدكتور غازى صلاح الدين ونقول له من كان مربط فرسه قرب مربط فرس د. مجذوب فهو مثله ، ومن إستطاع أن يثبت أن د. مجذوب لم ينم معظم وقته فهو مثله .. ومن إستطاع أن يمكث مع دكتور مجذوب فهو أيضا مثله.. وفى تقديرى أن هذا ليس ضربًا من الخيال فى تقديس الراحل المقيم دكتور مجذوب فى مسألة عدم النوم ، وإنما الذى رمى اليه الدكتور غازى صلاح الدين هو أن الفقيد كان جده أكثر من هزله .. وشغله أكثر من فراغه .. وتعبه وسهره أكثر من راحته ونومه.. وصارت صفة عدم النوم هى الصفة الغالبة ، ويمنع النوم أحد أمرين : المرض والهم.. ولا نعرف لدكتور مجذوب مرضًا يمنعه النوم .. ولا نعرف له همًا غير هم الوطن والدين ، لهذا كان منفعلا بقضية آمن بها حتى أخمص قدميه ولا ينوم معظم ليله لأنه وببساطة شديدة مهموم بقضايا تجاوزت المعلوم عندنا ، وكما هو معروف حتى ساقط الهم ورديئه إذا تمكن من النفس يفعل بها ما يفعل .. مثلا نجد شخصاً ما (يَجَحِّمْ) فى الحفلة حتى الصباح لا يرمش له جفن دون إعياء أو تعب ونفس هذا الشخص تجده قد نام فى فترة جلوس الإمام بين الخطبتين على المنبر من يوم الجمعة وأطول زمن لجلوس الإمام بين خطبتى الجمعة (لا يتعدى نصف الدقيقة)، وكلنا شاهدنا حفلات مايكل جاكسون وبوب مارلى ينفعل الشخص مع قضية الغناء حتى يقع (نجيض) ويعاد ويزار لثلاثٍ أو سبعٍ .. وهذا حال المستمتع الهائم .. فما بال حال العابد والمستغرق الدائم دكتور مجذوب ما أردت الوصول إليه بهذه المقارنة (غير الموفقة) أن الشخص أى شخص إذا آمن بقضية أى قضية وأعطاها كل وقته .. سوف تصعد به مدارج أقل عتبة فيها وأيسرها عدم النوم .. وإذا أردت أن تعرف هذا فأسأل محبًا لله قد سما .. وأسأل متبتلا قد ذاق فى جنح الليل ترياقًا وبلسماً.. وإن شئت فأسأل عاشقًا بات يسهر مع أنجم السماء .. وما مجذوب إلا عبد قد سافر وسار الى الله قبل موته .. وأعظم ما قرأته فى هذا المعنى ما وجدته مدوناً فى (مفكرة) خاصة بشقيقى الطيب فضل الله المحامى .. ومفكرته هذه فيها أشياء كثيرة متناقضة ولا يتشابه فيها شيئان إثنان أبدا، لكن كلها مهمة ولها حاجة .. هذه المفكرة فيها طب الأعشاب، وفيها الشعر وفيها السياسة وفيها القرآن والأحاديث والمآثر والكرامات وهى أشبه ب (صندوق الزوادة ) فى اللورى السفرى لأنه بجانب (حلة الطعام المسبكة) يجمع فى بطنه الحبل والبطارية والطبنجة والقرقوش والكبريتة والفحم والمشمع والفرار ، بالطبع لا يربط بين هذا الشتات رابط لكن هذا التنافر لا يلغى مهامها ولا ينفى وحدتها.. وهكذا الحال بالنسبة لمفكرة شقيقى الطيب فيها كل العلوم وأبحرت فيها ذات مرة فعثرت على لؤلؤة صوفية نادرة وتنطبق على حال الراحلين المقيمين الدكتور مجذوب وشقيقه الخواض واللؤلوة مفادها : أنه إذا عزم العبد على السفر الى الله سبحانه وتعالى تتعرض له الخوادع والقواطع فينخدع أولا بالشهوات والرياسات والممالك والمناكح والملابس، فإن وقف معها إنقطع عن الله وكانت حظه منه .. وإن رفضها ولم يقف معها وصدق فى طلبه أُبتلى بوطء عقبه وتقبيل يده والتوسعة له فى المجلس والإشارة اليه بالدعاء ورجاء بركته ونحو ذلك .. فإذا وقف مع هذا إنقطع به عن الله وكان حظه منه.. وإن رفض ذلك ولم يقف معه وصدق فى طلبه أبتلى بالكرامات والكشوفات فإن وقف معها إنقطع بها عن الله وكانت حظه منه .. وإذا رفضها ولم يقف معها وصدق فى طلبه أبتلى بالتجريد والتخلى ولذة الجمعية وعزة الوحدة والفراغ من الدنيا فإن وقف مع ذلك إنقطع به عن الله وكان حظه منه .. وإن رفض ذلك ولم يقف وصدق فى طلبه وسار ناظرا الى مراد الله منه وما يحبه منه بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت وكيف كانت تعب أو إستراح .. تنعم أو تألم.. أخرجته الى الناس أو عزلته، لا يختار لنفسه غير ما يختاره له وليه وسيده ووقف مع أمره ينفذه بحسب الإمكان ونفسه عنده أهون عليه من أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده ومولاه .. إن فعل ذلك فهذا هو العبد الذى وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شىء حيًا أو ميتًا .. وظنا بالله حسن ونأمل أن يكون حال المجذوب وشقيقه الخواض حال ذلك العبد الذى تجاوز كل هذه المفازات وصعد الدرجات العلية، درجة بعد درجة، حتى إجتباه إليه .. رباه أتياك بغير زاد فإن الزاد الى بيت الكريم لا يُحمل فى مركبة عامة.. سمعت شابًا يسأل صاحبه : يا أخو إنت مجذوب دا من وين ؟ فأجبت سرًا .. مجذوب من وين ؟! من بلدكم دى .. من طيبة الخواض فى ولاية نهر النيل .. ولاية فيها السيوف .. فيها تقابة القرآن فيها الحروف .. وفيها عشم الضيوف وخضار الجروف .. وفيها إغاثة الملهوف .. فيها البنوت الغُبش الرائحات على التحتانية وفوق رِوِيساتِنْ فطور أبواتِنْ العليهم التَكَلْ يوم الخرطوم (تَكَوِعْ) دايرة البصل والفول.. من الحول الى الحول .. غيرهم ما فى زول .. فيها الشيخ الحفيان فيها الشيخ باسبار.. فيها المريد والحوار .. فيها الطار والنوبة .. وفيها الجلابية المقلوبة والسبحة والتبروقة .. فيها الشيخ البلال فيها الأساس وفيها راجل كدباس .. فيها الذكر وفيها الشيخ بابكر.. فيها الزين وفيها الفكى حسين .. فيها السمح وفيها القمح .. وكمان فيها نار ولهب جمر .. وفيها قصار العمر .. وفيها ناس حرقت الملوك ضُر. رحم الله الفقيد الراحل الدكتور مجذوب الخليفة ونشهد له بأن كل الملفات التى أخذها أخذها بقوة .. وأعطاها معظم وقته وغرق وإستغرق فيها لهذا لا غرو ولا عجب أن يسهر حتى الساعات الأولى من صباح كل يوم .. وهو رجل يعشق الليل ويميل الى أن ينجز معظم أعماله ليلا .. وقد ذكر لى خالى الدكتور صديق محمد مصطفى أنه ومجموعة من الأطباء إحتاجوا يومًا لدكتور مجذوب ورأوا الإستنارة برأيه فى مسألة تهم السودان وأهل السودان ، وظلوا فى حالة ملاحقة شبه دائمة له من محل الى محل ومن مكان الى مكان ، ومن إجتماع الى إجتماع ودائما الإجابة هى نفس الإجابة (والله هسع مرق) ومرات كثيرة ينتظرونه فى بيته دون أن يجدوه رغم وجوده فى الخرطوم، وعلى ضوء هذا قرروا زيارته فى الساعة الثالثة صباحا فى منزله وقصدوا أن (يقبضوه) ويصلوا معه الصبح .. وفى الساعات الأولى من فجر ذلك اليوم تحرك ركبهم ونسائم الليل البهيم تداعب الحواس وعليل السحر (يربت) على أكتاف الأجفان ويتنقل الكرى من عين الى عين وتأبى الهمم العالية الخلود الى النوم والراحة وتشرئب أعناقها شوقا لمقابلة ورؤية دكتور مجذوب ومفاتحته فى الأمر والإستئناس برأيه .. وقبيل وصولهم الى منزل الفقيد الراحل وهم على بعد أمتار منه رأوا عربة خرجت من المنزل أمامهم .. طرقوا الباب لتجىء الإجابة (أبوى والله هسع سافر القضارف .. والعربية الطلعت قدامكم دى عربيتو ) .. نشهد له وشهد الجميع أنه كان لكل الناس ، وخير مثال لذلك تنوع تلك الجموع الهادرة التى تقاطرت الى طيبة الخواض لتودع هذا الفارس الذى ترجل وألقى عصا حله وترحاله التى كان يصول ويجول بها فى جميع البيوت وجميع الأحزاب لا يحمل حقدا لأحد قط ، لهذا بكاه وبكته جميع الطوائف والأحزاب وهرعوا الى داره وأهله والدموع تسبقهم لتحكى صدق وأصالة هذا الشعب الأبى الذى جسد فى سرادق عزائه لوحة سودانية نادرة ، جميع ألوان الطيف السياسى ، أتوا جميعا ليُعزوا لا ليَعزوا .. وحالى كحال العاجز لم أسافر لكى أقوم بتقديم واجب العزاء فى هذا الرجل الهرم الشامخ ، بل إكتفيت بمتابعة ذلك عبر التلفاز وكان تشييعه عجيبًا، تفرستُ فى جميع الوجوه فلم أجد وجهًا غائبًا غير وجهى .. وتحسستُ المقاعد فلم أجد مقعدًا
خاليًا غير مقعدى .. ونظرتُ الى الصفوف فلم أجد فيها فجوةً غير فجوتى.. أطلتُ السمع لوقع الأقدام فلم أجد صوتاً لقدمى .. حضر الجميع وأزالوا الدين من فوق الأعناق غير عنقى .. وتنادوا من كل صوب الى محرابه يناجونه فى حبٍ وعشق.. مقتفين آثار الخطى فى حكمةٍ ونسقِ .. تحسرت فى لوعة لغيابى لكن تذوقت ما ذاقوه رغم بعدى .. فلله درهم من أخوان هرعوا والدموع متحجرة والقلوب واجفة.. ولا يقولون إلا ما يرضى الله والمصيبة كبيرة والفجيعة عظيمة .. وليس الرذية فقد مال أو بعير .. ولكن الرذية من يموت بموته خلق كثير. هذه سياحة على عجل فى محراب هذا الرجل بمناسبة مرور عام على رحيله، وأنا أتصفح كتاب حياته لكن الأسف يطول لأننى لم أستطع أن أتجاوز العناوين البارزة لهذا السفر القيم ولم أغص فى دواخل هذا الكتاب لضعف عدتى وعتادى فى هذه الناحية.. وظللت حبيس مطالعة العناوين البارزة لجهلى المطبق بالتفاصيل .. ولأننى لم أكن طبيبًا حتى أعرف كيف إستطاع هذا الرجل أن يجفف ويضمد جراحات هذا الوطن ويدفن دمامله ويستأصل كل بؤر النزاع فيه بحكمة وعناية .. وكيف تيسر لهذا النطاسي أن يجرى هذه العمليات الجراحية الدقيقة والمستعصية داخليا وخارجيا مما أفسح المجال أمامه ليجتث كل حشائش السموم والفيروسات حمايةً لإنسان هذا البلد شماله وجنوبه وغربه وشرقه .. ولأننى لم أكن سياسيا حتى أعلم وأعرف كيف عالج كل هذه المتنافرات وقدمها للسودان ولأهل السودان بل للعالم أجمع فى طبقٍ شهى وفى تناغم وتنوع يحفظ للبلد عزته وكرامته . رحم الله الفقيد الدكتور مجذوب الخليفة وشقيقه الخواض وأسكنهما فسيح جناته ونسأله تعالى أن يتقبلهما قبولا حسنا مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا وإنا لله و(إنا لله إليه راجعون).. وجعل الله البركة فى أنجال الفقيد الراحل محمد وأحمد والأمين وكريماته عائشة وإبتهال وإيمان وشقيقاته بنونة وبرة وصفية وفاطمة وهلالية ونسأله تعالى أن يملأ أحشاء الجميع صبرا وسلوانا .. وأدناه بعض من الرحيق الذى وعدت به فى صدر هذا المقال . * أرفعى مُقنعِكْ يا طيبة وأتبلمى بتوب الصبر يا متمَّة .. * خليك لزوم يا الأمين وقع المحتوم واليوم تمَّ .. * محمد مجذوب أبوك أدَّى الفرض والذِمَّة .. * أحمد .. أبوك كم شَقَّ عتمورًا ضُُلُمَّة .. * فى أبوجا ، فى نيفاشا وأديس أبابا لَمَّ شتاتنا لمَّ .. * كان عالى الهمة صخرًا جلمودًا أصَمَّ.. * بعد السلام العَمَّ قال أخير أنجَمَّ.. * وسع يا قدر وأبعد يا شيطان يا رِمَّة.. * تسلم يا خوى لبيت نداءا أهمَّ... * صباحًا بدرى رفعت التمام لي شفيع الأمَّة .. * وتركت العصا والملف يا رجل يا أمَّة .. * ببركة تبارك ويس وعَمَّ تسلم من السؤال والضَمَّة ..

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.