إحساس الخوف الذي ملأني حينها لم يكن يتناسب مع طبيعة الموقف، كما أن (عامل السن) - على حد قول ترباس - في أغنيته الشهيرة - (جنا الباباي) - كان سيوفر حرصاً إضافياً على التماسك إن كان في الأجواء ما يثير الرهبة، لكن أمراً ما كان يختبئ في انف الذاكرة، فذات العطر الذي أشاعه محدثي فى المكان - كان عطراً مفضلاً لأستاذ الرياضيات فى المرحلة الابتدائية قبل نيف وعشرين عاماً - وقد كنا نطلق عليه حينها اسم أحد القضاة المشهورين في حقبة تطبيق قوانين سبتمبر - وسر التسمية واضح، فلقد ملأنا الرجل رعباً وأعياناً ضرباً وأوسعنا بطشاً حتى (كرهنا) الرياضيات ومقتنا الأرقام، ولا أدري حتى اليوم الحكمة وراء استهلال اليوم الدراسي بحصتين للحساب - على الريق - وفي عز الشتاء.. لكني أجزم أن الحاجز النفسي الذي كان يقف بين هذه المادة وأعداد مقدرة من طلاب السودان، كان سببه التوقيت المبكرمما أساء لسمعة الرياضيات في مدارسنا لدرجة نعته ب (فرّاق الحبايب) بفتح وتشديد الراء. عموماً ليس هذا هو الموضوع، لكن حالة الخوف التي انتابتني جراء سريان عطر قديم في ذاكرتي لأستاذ الرياضيات - غفر الله له - هي ذات الحالة التي طمأنتني حينما هبطت في مدينة الأبيض لتلقي الدراسة في جامعة كردفان في منتصف تسعينات القرن الماضي.. فلقد جلست على مقهى في قارعة السوق لاستجمع تماسكي في مقاومة الاغتراب عن المنزل، ورحم الله مصطفى سيد أحمد فقد كان يبدد ما استجمعه من تماسك - في لحظة - بصوته الغارق في الشجن وهو يردد (مطر الحزن عاود هطل جدّد عذاب الأرصفة وضي المصابيح البعيدة أتعب عيونك وانطفأ)، حينها كان الدمع ينثال سخينا من عيون تعوّدت أن تكحل صباحاتها بنظرة الحاجة نفيسة وهي تقلب - زلابية - في فجراوية يطمئنها قرآن الحاج عبد القادر.. عموماً سرت رائحة الشيخ الصالح الذي جلس الى جانبي - إنّه عطر من ابى - أيقظ في ذاكرتي حالة من الاطمئنان لم يفلح معها تحريض مصطفى سيد أحمد وهو يتمادى في إعلان فشلي في الصمود مردداً (كان خوفي منِك جايي من لهفة خطاك على المواعيد الوهم، وهو نحنا في الآخر سوا باعنا الهوى وماشين على سكة عدم). عطر الرجل الصالح وان منحني القدرة على التماسك لكنه ألهبني شوقاً إلى بيتنا فغفلت راجعاً وتركت الأبيض والجامعة وفي هذه قصة أخرى).عموماً وبلا تفصيل تظل رائحة عطر ما تحيلك الى ذكريات حزينة أو حبيبة لكنها (أنف الذاكرة) التي لا تنسى. سجال الرهق اليومي في ديسك التحرير كان ينبهي إلى أنه ومثلما أن للذكرى رائحة تنتج إحساسك باللحظة، فإن للمفردات روائح تفوح لتمنحك الراحة أو تصدمك من الوهلة الأولى، والسودانيون يقولون: (الكلام جاب ليهو ريحة)، وجودي في دبي مشاركا في أعمال المنتدى الاستراتيجي العربي أعادني الى ما نديره من حوار حول (رائحة الكلمات).. فلقد أقلقتني الرائحة التي تثيرها مفردة السودان في مخيلة آخرين من جنسيات مختلفة، هذا الوطن الموسوم في دواخلنا بعبق الحنين والطين والنيل تنفذ من سيرته رائحة تحيل (الونسة) الى فضاء من القلق، فمزيج خيبات الفقر والحرب وضعف التنمية أفرز استنشاقا غير مطمئن لمفردة السودان في أنوف الآخرين. أثق تماماً في أننا لسنا الأسوأ، لكنه عجز السياسات والدبلوماسية وتقصير الإعلام عن إشاعة ما هو جميل في هذا الوطن، فالوارد عن بلدنا من أخبار سيئة في القنوات التلفزيونية ووكالات الأنباء يتشكل بعيداً عن أيدينا، إنه واقع مقلق يسدد فواتيره المغتربون وتدفع استحقاقاته البلد على المدى القصير والطويل ونحن في غفلة سادرون، أهو ضعف الوطنية وعدم الإكتراث لقيمة السودان؟ أم أنه عجز عن التخطيط في التعاطي مع آلة إعلامية أصبحت لا ترى سوى عوراتنا؟، لو كنت المسؤول لجنّدت كل الأموال والمقدرات لتقديم صورة طيبة عن السودان ? وراجعت ما تفعله الجيوش الجرّارة من الدبلوماسيين السودانيين في بلدان العرب والعجم - كل ما أخشاه أن لا نجد صورة نقدمها مستقبلاً. نعيد نشره بمناسبة انعقاد مؤتمر اقتصادات مؤتمر الهجرة الثاني