واستيقظتِ الجواري الحسانُ على كفِّ الفجرِ لتبدأَ حكايةٌ جديدةٌ تستطيلُ فوق جيدِ الكَلِم، إنها سيدةٌ قد تجاوزتِ الخمسين من عُمرها... تحمل وثيقةَ انتماءٍ لبلاد الصبر، تربت يتيمةَ الأبوينِ، وتزوجت وهي ابنة الخامسة عشرة، فكان زوجها ملاذَ روحِها، ولكنَّه خذلَ مشاعرها بزواجه من أخرى يتباهى بها، متعلمةٌ ترتدي ثوب الحضارة والتمدن، وتَرَكها بعد أن أنجبت منه ثمانِ زهرات، فسترت في جوفها المعاناةَ، وتعهدت أن تبذل لهمُ السعادة بسخاءٍ باذخ، داهمها الحزن حين فقدت ابنتها الكبرى في حادثِ سير... رحلت الابنة عن الدنيا، ومضت هي تصعد من أعماق الألم إلى قممِ السكينة والطمأنينةِ ثم فاجأها الوجع من جديد حين أصيب أحدُ أبنائِها بمرضٍ نفسيٍ مُزمنٍ أعجزه عن العيش متكيفاً مع بيئته، فامتلأتْ بالطاقةِ، والحماس، والعاطفة، وسارت تزرع الأمل في كل ممر يرسم خطواته، ورغم أنها أمِّية لا تقرأ، ولا تكتب، فقد كسرت القاعدة التي تقول: فاقد الشيء لا يعطيه، بل أعطت وعلِّمت فلذاتِ كبدها أفضلَ تعليم ليصبحوا ليس من حملةِ الشهادات العليا وحسب، بل من حملةِ العلم النافع الذي يُهذب ويُعدِّلُ السلوك، ويسمو بالأخلاق، ويتخطى حدود الحاضر نحو المستقبل، إنها أكاديميةٌ لتطويرِ وتنميةِ الذات تغسل الفَقدَ بقوةِ الروح، وحسن الظن بالله تعيشُ حياتها لغدٍ... للأفضل، تتمتع بإيجابيةٍ، وتمتلك نظرةً ثاقبةً، وتتحرك ببصيرة، تلك الأمّية تُوازِنُ بين الحقوقِ والواجبات، وتؤمن بأهمية الأعمال التطوعية، فتبذل جهدها لخدمة الصغير والكبير... تمارس سحر الابتسامة التي لا تفارق مُحيّاها... وتنهل من ينبوعِ التسامح ما يشفي نفسها من أمراضِ الحسد والحقد... تعطي العبادة حقّها، وتغذي روحها بذكر الله دوماً، تُدخل السرور في نفس من يقترب منها، وفي ذات الوقت تَعرف حدودَها فلا تتدخل في شُئون الآخرين ...تعتبر مشكلاتِ الحياة فرصةً لاكتساب خبرات جديدة. فأين نحن من هذه المرأة الباسقة التي تقف من حولنا وتُردِّد (يا حنان الكريم طاريك وحقك في السمح راجيك)، وتردد أيضا ( نحمد الله على النفس الطالع والنازل ) ترى نفسها شابة نَضِرة ما زالت أمامها أهداف تتحرك نحوها بخطىً واثقة. الكثير من شبابنا اليوم شُيوخ يعيشون في قلقٍ، واكتئابٍ، ويأس... لا سكينةَ في القلب أو هدوء بال، دائمي الشكوى والتذمر، ليس لديهم أهداف ذات قيمة، يتحركون في الحياة بمستوى منخفض من الطاقة، لا يقدرون على حل مشكلاتهم بل يتقوقعون حول ذاتهم، يأخذون أكثر مما يعطون ولا يجوِّدون العمل. نحتاج جميعنا أن نثريَ أرواحَنا بنماذجَ من أجيالنا السابقة لتزيح عن الكاهل ما أثقله، ولنتوقف عن شق الجيوب ولطم الخدود.