"لا يقوي السلطة مثل الصمت".. شارل ديغول! رجل شرطة إسرائيلي كان يقف كل يوم على حاجز أقامه الجيش في شوارع القدس لتفتيش الفلسطينيين، وبعد تفحص أوراق العابرين، كان ذلك الشرطي يصوب نحو الواحد منهم مدفعه الرشاش ثم يلقي إليه بفوطة ويأمره بتلميع حذائه، وكانوا يفعلون..! إلى أن جاء يوم مَرّ على ذلك الحاجز شاب فلسطيني رفض أن ينحني لتلميع الحذاء وحينما هدده الجندي بالقتل صاح في وجهه "اقتلني مائة مرة، لكنني لن ألمع حذاءك"، فماذا فعل الجندي؟!.. تراجع فوراً عن طلبه، وتظاهر بأنه يتلقى مكالمة على هاتفه المحمول ثم سمح له بعبور الحاجز..! بعيداً عن جنسية الشرطي أو الشاب العابر تثبت الحكاية أن العابرين من حاجز الكرامة هم الذين يحددون سلوك المعتدين بخضوعهم أو رفضهم لشيوع طبائع الاستبداد فيهم..! أقوى أسباب اندلاع الثورة المصرية هو طغيان منسوبي جهاز الأمن واستبداد منسوبي أجهزة الشرطة من العساكر والأمناء والمُخبرين، وتراكم معدلات الإذعان في مواقف المواطنين، ولو تأمّلت في سير المتجاوزين في تلك الأجهزة ستجد أن العلاقة بين حجم الرتبة ومقدار العنف عكسية..! إذا تحدّثت عن التجاوزات التي يضعها القانون صراحةً في خانة الجرائم، ورغم ذلك يتعرض لها المحكومون في بعض السجون السودانية، يدهشك مسؤول رفيع المستوى بأنّه يقر بوجود تلك الحوادث والتجاوزات لكنه يدهشك أكثر باستدراك مفاده أنها تصدر عادةً من العساكر وليس الضباط..! وإذا سألت نظيره في شرطة المرور عن مضاعفة الجبايات وطرائق التحصيل والتجاوزات والرشاوى، أدهشك بأنه لا يملك إجابات منطقية واضحة بشأن تداعيات وإشكالات السلطة التقديرية الواسعة الممنوحة لشرطي المرور في الطريق العام..! أما جهاز الأمن فعلاقته بالسلطة الرابعة تبقى محصورة في تنفيذ مشيئته وتحقيق إرادته، بين منع النشر ومحاكمة الصحفي أو اعتقاله إذا لزم الأمر، أمّا علاقة منسوبيه بالمواطن السوداني فتظل مَحفوفةً بأخطار الوقوف على حاجز الحرية - إيّاه - خوفاً من إراقة الدماء أو إراقة الكرامة - وذلك أضعف الإيمان..! ذات الصحف التي تحمل تشكيك الحكومة في ادعاءات المعارضة، تحمل أيضاً أخباراً لجرائم مؤكدة ارتكبت بحق مواطنين أبرياء - باسم الشرطة والنظام والأمن - في عهد الإنقاذ والإذعان..! ارتفاع معدلات هذا النوع من الجرائم هو الذي عجّل باندلاع الثورات العربية التي أكدت مآلاتها أن شيوع الاستبداد وتفاقم الإذعان - في أيِّ مجتمع - هو الوجه الآخر للتمرد والثورة.!