التجربة البرلمانيّة في السودان ليست قصيرة، لكنّها ليست مُتمدِّدة... ومهما اختلفنا على دقّة التمثيل النيابي في هذه البرلمانات ونوعيّة النوّاب الذين أتت بهم ومهما تنازعنا في كيفيّة ذلك التمثيل، فإنّنا لو أتينا بلجنة محايدة من خارج السودان للحكم على تجربتنا البرلمانية فلن يُحزن تقرير تلك اللجنة أحداً، لكنّه لن يُفرح أحداً! البرلمان السوداني له الحق الفخار الوطني بأنّ برلمانه هو الذي أعلنَ استقلال السودان قبل حكومته، كان إعلان ذلك الاستقلال من تحت قُبّة البرلمان، وهو ما جعل لتاريخ استقلال السودان تقويمين، تقويم برلماني يوم (19 ديسمبر)، وتقويم قصري يوم رفع العلم على سارية القصر (1 يناير)... ولأنّ السلطة التنفيذيّة في السودان دائماً هي أقوى من السلطة التشريعيّة فإنّ السودانيين يتخذون الأوّل من يناير نقطة الأصل في استقلالهم! أُتهمت التجربة البرلمانيّة السودانيّة بأنّها أتت برموز القبيلة وزعماء الجهويّة وجعلتهم أوتادها، لكنّ خير البرلمانات في كل الدنيا هي التي تأتي تعبيراً عن نظامها الاجتماعي، ولو كَرِه أنصار خمسين بالمائة للعمّال والمزارعين أو أنصار خمسة وعشرين بالمائة للمرأة! كنت طفلاً غريراً عندما ساقني شقيقي الأكبر لجلسة في البرلمان وكان وقتها جمعيّة تأسيسيّة يرأسها دكتور مبارك الفاضل شدّاد، فلما دخل على الجلسة وَقَفَ النوّاب فوقفنا نحن مع وقفتهم وجلسنا عندما جلسوا... كنت مبهوراً بالشاكوش الذي يُدير به رئيس الجمعيّة الجلسة فكان أوّل درس لي في طفولتي السياسيّة أنّ الديمقراطيّة هي حريّة وشاكوش! أتألّم الآن عندما أتذكّر أنّ التجربة البرلمانية في السودان عاشت على الدساتير المؤقّتة، وأنّ السودان لا ينعم حتى الآن بدستور دائم ولا بوثيقة وطنية عليها اتفاق... ويوسوس لي الشيطان السياسي الخنّاس من وقتٍ لآخر كيف يستطيع برلمان إعلان استقلال ولا يستطيع إعلان دستور دائم! اليوم (19 ديسمبر) يوم استقلال السودان بالتقويم البرلماني... لن نقول فيه قولاً غير أنْ نُلقي السلام على تجربتنا البرلمانية بعلاّتها... سلامٌ على قُبة البرلمان وسلامٌ على من هم تحت القبة... وسلام على الفكي تحت القُبّة إن كانت قبّة البرلمان تحتها فكي!!