هنالك بعضُ الأمكنة تتقاطعُ مع جزءٍ من السيرة الذاتيّة للأفراد... تتقاطع سِيَرَهم الذاتيّة مع بعض الأمكنة فتتقاطع الأمكنة مع الأزمنة! السفارة السودانيّة بالقاهرة تتقاطع مع جزءٍ حيوي من سيرتي الذاتيّة... هذه السفارة التي تقع بين فلل جاردن سيتي عرّفتني أيّام نضارتي الطلابيّة، تَمتّعت فيها مع مجموعة قليلة بحق استثنائي فقد كنّا طلاباً فوق العادة نحرّر مجلة من أهم المجلات السودانية شراكة بين السفارة وإتحاد الطلاب... كنّا نمر من بين عضلات حرّاسها الأشدّاء بكلمة السِر: مجلة الثقافي! وبعد أن تخرّجت في الجامعة وتبدّلت الأمكنة لم تنقطع صلتي بالسفارة، ففي أغلب زياراتي للقاهرة آتيها لمصافحتها ومصافحة ذكرياتى، فأدخلها من أبوابها فيسري بداخلي تيارٌ كهربائي مشحون، وتتداعى أمامي صُوَرٌ من الذكريات! تتداعى أمامي صورة أننا كنّا نقبض من الدولة السودانيّة عبر هذه السفارة عشرة جنيهات مصرية ثُمّ تعدّلت إلى عشرين جنيهاً... كانت العَشَرَة والعشرين قادرتين على إعاشة الطلاب الباسطين أيديهم لمدّة أسبوعين وقادرتين على إعاشة الطلاب القابضين أيديهم الشهر كله... ينال تلك العَشَرَة أو العشرين كلُ الطلاب، لا فرق بين الذين ابتعثتهم وزارة التعليم العالي السودانيّة وبين الذين ابتعثوا أنفسهم، أو بين الذين أتت بهم واسطة مولانا الميرغني وبين الذين دفعَ بهم الراحل العظيم دكتور طلبة عويضة بقفزةٍ أوكرباتية إلى الزقازيق! وعندما أدور بردهات السفارة تتداعى أمامي تلك الأيام الخوالي التي كان اتحاد الطلاب السودانيين بمصر حكومة طلابية تضبط علاقتها بسفارة ممثلةً لحكومة مايو، وغير بعيدة عن سفارة يرفرف فوقها العلم الاسرائيلي الذي كلّف مصر انسحاب جامعة الدول العربية منها إلى تونس! في هذه الأيام تنتقل السفارة السودانية بالقاهرة من جاردن سيتي الذي سكنته منذ أيّام الاستقلال وسفيرها بابكر الديب إلى مكانها الجديد بالدقّي... وبانتقال السفارة من جاردن سيتي فإنّ كثيراً من صُوَري المخزونة تنتقل منّي وتغادرني! سلامٌ على مكان أقامت فيه سفارة السودان سبعة وخمسين عاماً فتقمّصته، سلامٌ على سلكها الدبلوماسي الذي كان، وعلى أبوابها وبوّابيها... وداعاً لسفارةٍ كنّا نظنّها واحدة من هوانم جاردن سيتي!!