... كثيراً ما ردد الغربيون بأن السودان يعاني من أزمة (هوية)، ومن قبل خصص الدكتور منصور خالد في كتابه عن (جون قرنق) فصلاً كاملاً عن أزمة الهوية.. وأصبح الكلام عن الهوية السودانية عبارة سائرة على ألسنة المثقفين والخطباء. ومع ذلك نقول إن السودان (سودانان).. سودان نبتة ومروي والممالك المسيحية، ثم سلطنة الفونج بتراتيبيته الحضارية وتسلسله الثقافي.. وهذا السودان هو الذي ظل عقله مفتوحاً على الحضارة العالمية منذ خمسة آلاف سنة.. وهو سودان عرف إنجازات الحضارة العالمية وتشهد بذلك الآثار الموجودة في متحف السودان القومي، وتشهد عليها إهرامات البركل والبجراوية، وتشهد عليها النقوش المكتوبة باللغة اليونانية والرومانية والقبطية والهيروغليفية ثم العربية. ولكن هذا السودان الذي كان جزءاً من الحضارة العالمية وجزءاً من المشروع العالمي ومجتمع الحضارات القديمة وازاه سودان آخر .. سودان حجبته (الظروف) عن العالم.. وحجبته السدود والمستنقعات وحاجز الأمطار والأمراض، هذا السودان في حد ذاته فيه مئات النماذج السودانية..لأنه سودان يقوم على العشيرة والقبيلة، ولكل قبيلة لغتها وشيخها وظلت تاريخياً محجوبة حتى عن القبيلة الأخرى.. وهذا السودان المحجوب كان ولا يزال ضد فكرة الدولة من حيث أتت.. وضد فكرة (الآخر).. وحينما رمزنا لذلك بالهلال و(الثعبان).. فإننا أردنا في رمزنا للهلال تعبيراً عن الصيغة الأخيرة لتطور سودان الحضارات، حيث إنتهى للصيغة الإسلامية والثقافة الإسلامية وإلى الحرف القرآني وإلى اللغة العربية. --------------------- مكونات مشتركة بينما لا تزال مكونات كثيرة من السودان الآخر بعيدة عن العالم ولا تزال كثير من مكوناتها تعبد (الثعبان) أو تقدسه.. وليس هي فقط بعض قبائل جنوب السودان التي ترى أن السودان تجسيد لرموز روحانية.. فكثير من القبائل الأفريقية غرباًَ وشرقاً وعلى امتداد ما وراء الصحراء من المحيط الأطلسي وإلى المحيط الهندي تشترك مع مكونات جنوب السودان في العبادات (الفتشية)، وتشترك معه في فكرة عبادة الأرواح، وتشترك معه في عبادة (السلف)، وتشترك معه في مسألة الرؤية أو عقيدة (الثعبان).. ولهذا تجد أن هذه العقيدة عندما تتحول إلى ثقافة ورغم اعتناق الأحفاد للدين الإسلامي أو المسيحي تجد أن هناك الكثير من القبائل في الجنوب والغرب ومنطقة النيل الأزرق يهابون إلى الآن قتل الثعبان، اعتقاداً منهم أن الثعبان أو روحه ستأخذ بالثأر. ولكن المفاجأة الحادثة بينما عقل سودان الحضارات يتجه بتؤدة نحو حوار الحضارات. فإن هناك قفزة في سودان (الفتشية) وسودان عقيدة (الثعبان) وسودان عبادة (الكجور) حيث تجد أن هناك قفزة نوعية من عبادة (الثعبان) إلى عبادة (العولمة). إذاًَ، الصراع لم يكن أبداً بين سودان (المنارة) وسودان (الثعبان).. ولكن أصل الصراع تأسس بين الذين يريدون تدمير (المنارة) ليس لمصلحة (الثعبان)، ولكن لمصلحة (العولمة).. وهؤلاء هم غلاة (الأنجلوساكسون) الذين كانوا وما زالوا يتساءلون: لماذا نجح المشروع الإنجليزي في (أستراليا) و(أمريكا) و(كندا) و(نيوزيلندة) وفشل في (السودان)؟ لماذا يبدو السودان (منارة) موازية للمنارة الأنجلوساكسونية وبالنسبة للعصابة الأنجلوساكسونية التي تدير أمور العالم، ظل السؤال والتحدي: لماذا لم ينتقل جنوب السودان مباشرة من الثعبان للعقل الأوربي واللسان الأوربي وآلهة أوربا.. على غرار ما حدث في كينيا ويوغندا وغانا ومعظم الدول الإفريقية؟ ولعل الإجابة تكمن في الحصانة والمناعة التي تعطيها (المنارة) السودانية للأطراف التي حولها.. ولذلك لم يبق أمام الغرب المتسلط إلا هدم (المنارة).. ولكن كيف ذلك و(المنارة) متجذرة بعمق خمسة آلاف سنة.. وهذا هو مكمن وأصل الصراع في السودان. ولكنه ليس أبداً صراعاً بين (الهلال) و (الثعبان). فالثعبان يتلاشى في جنوب السودان، وفي جنوب النيل الأزرق وفي بعض مناطق غرب السودان.. ومن العجيب أنك عندما ترسم خارطة عقيدة الثعبان تجدها تطابق خارطة المناطق المقفولة التي أسسها (الأنجلوساكسون) في استعمارهم للسودان. ولذلك نقول إنه صراع بين غلاة الأنجلوساكسون، وغلاة رموز العلمانية في الجنوب والشرق والغرب والخرطوم.. هو صراع الثقافة الإسلامية العربية مع الثقافة العولمية المسيحية.. التي تريد طرد واستئصال الإسلام من جنوب السودان ومن جبال النوبة بل حتى من الخرطوم، والعودة إلى المناطق المقفولة أمام الإسلام والمفتوحة أمام العولمة بدون مساحة. (الطبخة) سيئة السمعة ولعل هذا (الفرشة) أو المقدمة فقط لفهم: لماذا هم ضد حكومة الإنقاذ.. ولماذا هم ضد الرئيس عمر البشير.. ولماذا (الطبخة) سيئة السمعة والمقصد التي تسمى محكمة الجنايات الدولية.. ولماذا قوات الهجين.. ولماذا قضية دارفور. ولماذا كل هذا الحصار والصراخ والعويل والضغوط على السودان؟ وندلف إلى القضية التي ثارت في الأيام الماضية.. والقضية بسيطة تتعلق بخاطفين ومختطفين.. المختطفون من جنسيات أوربية والخاطفون من دارفور.. ولكن لماذا كان التعتيم على جنسية الخاطفين وهويتهم.. بالقول تارة بأنهم سودانيون وتارة بأنهم مصريون وتارة بأنهم تشاديون.. ونقول: إن التعتيم كان مقصوداً لمصلحة ما يسمى بتمرد دارفور والحركات المسلحة بدارفور.. التي كثير منها نشأ في أحضان المخابرات، والآن عندما خرجت عن الطور لتصطاد رجال المخابرات حدثت المفاجأة. ولكن هل كان هذا الحادث مدبراً.. هل كان محاولة مدبرة لتغذية الحركات المتمردة بالمال بعد أن تم تجفيف مصادر دخلها الداخلي في العطرون وبئر منزة.. نقول لا نستبعد ذلك.. ولا نستبعد أن يكون الحادث ذريعة لضخ أموال تحت سمع وبصر العالم للمتمردين.. خصوصاً وأنه ما أن أذيع خبر الخطف والمختطفين حتى تم الحديث عن (الفدية) وحددت ب (6) ملايين دولار، ثم تم الإنتقال بالمختطفين إلى دولة جارة.. وعندما تصدى الجيش السوداني لبعض الخاطفين وقتل منهم ستة و(أسر) اثنين اتضح أنهم تسللوا من دولة جارة عائدين إلى السودان ومعهم إحدى سيارات المخطوفين التابعة للسياحة المصرية لاستلام مبلغ (الفدية). ومن ناحية اخرى نسأل: لماذا صمتت منظمات الأممالمتحدة عن الجماعات المسلحة والحركات المسلحة التي تختطف عرباتها وتقتل أفرادها ولا تكشفها ولا تدين عملها الارهابي.. ولذلك لا نستبعد ان يكون ذلك أمراً متفقاً عليه.. لأن كثيراً من منظمات الأممالمتحدة واجهات دولية مشبوهة.. ومع ذلك نشيد باللقاء الذي أجراه قائد قوات الهجين (مارتن أقوال) Martin Agual في برنامج Hard Talk (الكلام الصعب) يوم الخميس 25/9/2008م في قناة ال BBC حيث حاول مقدم البرنامج ان يستدرجه للهجوم على الحكومة السودانية ورفض ذلك. وحينما جاء الحديث عن معسكر (كلمة) قال إن الحكومة السودانية كان من واجبها أن تكون حاضرة في هذا المعسكر لأن هذا المعسكر فيه سلاح خارج دائرة السيطرة.. وفيه مخدرات خارج دائرة السيطرة، ومع انه لام الحكومة على خفيف بأن القوة كانت مفرطة، لكنه رفض ان يكون فعلها هذا خروجاً على القانون.. ثم إنه تكلم بصدقية عن أن الحكومة السودانية تقدم خدمات كبيرة وحماية لمنظمات الأممالمتحدة وتقدم حماية لقوات الهجين ولام المجتمع الدولي على تقاعسه عن توفير الجنود الذين تحتاج اليهم قوات الهجين.. كما أنه لام المتمردين ومن ورائهم المجتمع الدولي الذي لا يقوم بالضغط على المتمردين.. ولعل هذه الإجابات الصادرة من شخص في حجمه للمجتمع الدولي تعتبر كسباً للدبلوماسية السودانية.. الاطاحة بأمبيكي ولكن كذلك تتعرض الدبلوماسية السودانية الى انتكاسة ممثلة في الإطاحة بالرئيس (أمبيكي).. حيث تمثل عملية الإطاحة بالرئيس (أمبيكي) نكسة على مسار كل القيم الديمقراطية في افريقيا.. حيث جاءت الإطاحة بأمبيكي دون مقدمات.. وجاءت بعد زيارته للخرطوم مباشرة.. وجاءت كذلك متوافقة مع وقفته القوية مع الرئيس (موغابي).. ومع بروزه كقوة مستقلة إزاء الهجمة الغربية على افريقيا ورفضه التماهي مع سياسة المجتمع الدولي.. ونحن نعلم أن في جنوب افريقيا (لوبي) أبيض وأقلية بيضاء ولها لوبي قوي في أمريكا ولها حضور قوي في الاتحاد الافريقي.. وكذلك للأقلية البيضاء في زيمبابوي جماعة ضغط قوية في أمريكا وفي المجتمع الأوربي. ونعتقد ان المرحلة القادمة ستكون مرحلة (جاكوب زوما) الذي جعل نائبه رئيساً لجنوب افريقيا.. ولكن من أين جاء (زوما) وهو غير معروف ولا يمثل رقماً على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدولي.. وهذا يعني تضاؤل دور جنوب افريقيا في المرحلة المقبلة.. وتلاشي واختفاء حليف مهم للسودان.. والرئيس الحالي كما قلنا انتقالي ولن يؤبه له كثيراً.. والذي يحدد مسار السياسة لجنوب افريقيا هو (جاكوب زوما) الذي سيعطي الأفضلية للأقلية البيضاء.. وهو (قبلي) ومن (الزولو).. ورغم انه يتمشدق باليسارية وخلفيته الماركسية.. ولكن كما نرى أن كل الذين كانوا يتمشدقون بالماركسية ولهم خلفيات يسارية أصبحوا الآن من زوار أمريكا وروادها.. وأصبحوا من كبار أعوان ال (C.I.A) والمخابرات الغربية.. وجاكوب زوما ليس له رصيد سياسي وأهمية سياسية كالرئيس (أمبيكي) وإنما عرف بفساده. ويكفي أن له أربع زوجات وهو مسيحي.. إحداهن وهي مطلقته هي وزيرة الخارجية الحالية.. ومن المعروف ان تأثير الغرب والقبلية والأقلية البيضاء سيكون عليه كبيراً.. كما أن زواجه من ثلاث نساء سيجعله قليل الحركة في السياسة الدولية مقارنة بأمبيكي، وربما أوكل كل الملفات الصعبة لوزارة الخارجية. ومهما يكن فإن هذه نكسة لأن لم يبق نسبياً صديق للسودان إلا (موغابي) في (زيمبابوي) و(زيناوي) في اثيوبيا.. ولكن كذلك نحن نشتم عواصف في القرن الافريقي.. وعواصف في شرق السودان.. وتجمع نشط تحت راية جبهة الشرق التي أخذت تتحدث عن أحداث بورتسودان وعن تدويل قضايا شرق السودان وتتكلم عن إرسال الملفات للأمم المتحدة.. ولذلك يجب ان تنتبه النخبة الحاكمة الى ما يجري في شرق السودان قبل ان نجد نيران شرق السودان قد أصبحت مثل نيران دارفور. ونختم هذا المقال بالتعليق على مقال هولي برووك Holbrooke التي نشرها في ال Finantial Times وهو جمهوري ولكنه مؤيد لباراك أوباما.. نسبة لأن (بوش) أطاح به من مقعده كمندوب أمريكا في مجلس الأمن.. ومن الواضح أنه لجأ لكتابة هذه المقالة بدلاً عن التآمر والتواطؤ السري حينما وضح له ان مجمل حركة الرأي العالمي ليست مع إدعاءات مذكرة أوكامبو التوقيفية بحق الرئيس المحبوب عمر البشير. دارفور ليست البوسنة وحاول (هولبرووك) في مقالته ان يقارن ما يجري في دارفور بالبوسنة.. ولكن ليس هناك وجه شبه. ففي البوسنة كان هناك استهداف للمسلمين من قبل الصرب، وفي السودان ليس هناك استهداف لأي عرق.. فرئيس مجلس شورى (الزغاوة) هو مدير جامعة الخرطوم أقوى الجامعات السودانية.. ومن أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين التيجاني آدم الطاهر وهو من نفس القبيلة.. وحتى خليل إبراهيم أو مني أركو مناوي لم يدعي أي منهم أن هناك ملاحقة مادية أو معنوية أو نية لإبادة قبيلة الزغاوة.. كما أن د. أحمد بابكر نهار يشغل منصب وزير البيئة وهو من الزغاوة.. وكذلك فإن ما ينطبق على الزغاوة ينطبق على المساليت.. ويكفي أن عائلة تاج الدين لم يبرز منها من يقول بذلك.. كما أن إبراهيم يحيى وعودته للحكومة بعد ان كان رئيساً لمجلس شورى العدل والمساواة أكبر تكذيب لذلك. أما فرية تعرض الفور للإبادة فإن أبناء الفور حاضرين وموجودين في كل فواصل الجهاز السياسي والتنفيذي، وآل السلطان علي دينار لم يتفوه احدهم بهذه الفرية. ومذكرة أوكامبو كما قرأناها تظل متهافتة وتهافت (هولي برووك) عليها هو تهافت التهافت.. كما أن تقرير لجنة الهيئة الدولية الذي اعتمد عليه (أوكامبو) لم يتكلم عن إبادة. فلذلك هذه مجرد تخرصات وتحرشات وتسميم للجو العالمي ومحاولة للإحاطة بالسودان ابتداء من تنحية الرئيس المحبوب (أمبيكي) الى هذه المقالات المسمومة والمدفوعة الأجر.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.