كان المنلوج اليومي يبدأ عندما تسقط الشمس في افقها الغربي.. وتبدأ العتمة حثيثاً لتأخذ مواقعها.. تضمحل الاشياء رويداً رويداً.. وتبهت المرآئي..وتنبهم المسالك. وإنْ هي إلاّ لحظات حتى يلقى الليل بعباءته الداكنة ليغطي الكون والكاذنات.. وتستيقظ النجوم نافضة عن نفسها كسل النهار لتلقي في البدء بارتعاشاتها الوانية ثم تتوهج بعيد ذلك.. فيما تبدأ بهر الاضواء المشعة في عمق المدينة ترسل لؤلؤها الباهر ساخرة من النهار الذي سحب اذياله، وخلدت الشمس الى نفسها، مستلقية على قفاها تريح جسدها المكدود!! لحظتئذ يبدأ «كبس» رحلة الاوبة من سقوف المدن والمعاطن داخلاً في عمق الزمن، متوغلاً الى بيته الذي يقع في عمق المدينة.. ينظر الرائي الى كبس ويجيل الطرف في بيته فيدرك في التو أن ليس ثمة تناسب بين البيت وصاحبه. فالبيت تبدو عليه آثار النعمة، في فخامته والأبهة التي تسيطر على اجوائه - فيما يلوح الرجل رقيق الحال وهو يمضي في ترنحه غير الواعي.. وفي حديثه غير الرزين، وكلامه المنفلت!! ورغم ذلك، فانك إذا استمعت إليه لوجدت حديثه يفيض عذوبة ورقة.. بل وحكمة وملامة.. ذلة وندامة، ورغبة في الرجوع والتوبة والاقلاع!! كبس دائم التفكير بصوت مرتفع.. رغم ان صديقه «أزرقين» ما انفك ينصحه ويذكره..«عد الى صوابك يا راجل.. الناس بانتظارك.. الزبائن بالدكان.. المقص الذهبي.. مقاطع القماش.. السكروتة.. الالاجة.. التاترون.. البوبلين ابو عرضين.. التفصيل المعتبر.. الحردة.. الكرشليت.. كسرة العمود.. اكابر المدينة لا يلبسون إلاّ ما تفصله وتخيطه.. دقيق المواعيد كنت.. رفيع المكانة صرت.. ويحج الناس إليك.. يسألون عنك.. إلام الآن صرت؟؟ إلام صرت يا كبس؟؟». كان قد افلح في تعليم ابنائه.. فشقوا طرائقهم.. تعلموا وهاجروا واغتربوا.. اعادوا بناء البيت بطوابق متعددة.. ورغم انهم قد طلبوا منه ان يترك ما هو فيه الآن.. إلاّ انه أبى وتآبى فليس هو بتارك العمل رغم انه لم يعد يتقنه كما كان.. كما انه ليس بتارك قصفه ولهوه.. فليشربوا من البحر!! ومن ثم فقد ظل دأبه ان يعمل في مكنته حتى منتصف النهار.. ومن ثم يشخص الى الاعالي فلا يعود إلاّ في أول الليل - ذلك ديدنه كل يوم، وفي كل الاحوال يحفظ طريقه تماماً.. يلقي بالتحية على الجلوس.. ويسأل بعضهم وهو ماض في طريقه غير عابيء.. لا يترنح بشكل ملفت.. رغم ثقل لسانه البادي.. يعزي من يستحق العزاء وهو ماض.. يسأل عن الغائبين.. يلم بكل مجريات الأمور على مستوى الحي، إما من الحاجة عندما يخلد الى الراحة.. أو في ساعات النهار الأولى قبل شخوصه الى الاعالي!. بيد انه لا يذهب الى بيوت المناسبات - رغم إلمامه بها - بُعدت أم قربت. يقول الذين يشاهدونه.. انه لا يجلس إلاّ وحده.. ولا يتناول أي مشروب مع الآخرين - وانه لا يلبث إلاّ قليلاً حتى يبدأ اجترار الاحداث وهو في اثناء ذلك.. يوقف تداعياته لطلب المزيد.. أو يسلم عليه احدهم فيرد السلام.. أو يطلب بعض السجائر.. أو بعض اطباق المزة.. ومن ثم يعود الى ما كان فيه - ومن محل وقوفه تماماً، مواصلاً موضوعه مناقشاً.. متسائلاً.. مجاوباً.. محتجاً: «بلد حفرة.. فيها شنو؟؟ تقضي وقتك كيف؟ حياة رتيبة.. عادات عجيبة.. عرس.. ولادة.. ختان.. موت.. تاني في شنو؟ ما هو آخرتا كوم تراب وعفن، العرس داير ريحة.. الولادة دايرة ريحة.. الختان داير ريحة.. الموت برضو داير ريحة.. ده كلو.. والعفنة قاعدة والحال في حالو»؟!! «يالتاية جيبي ريحة!! الكتلل.. جيبي صفيحة!! يازول إنت خرج بطنو؟؟ كتيرة يعني؟؟ خلاص نخليها جردل!». وعندئذ يكون المساء قد حل.. والمجالس قد انفضت.. وروائح الشواء قد خفتت - ما خلا تلك الروائح النفاذة الصادرة من الغرف السحيقة المظلمة.. والقطاطي الطرفية.. ينظر كبس ثم ينهض مصدراً صوتاً بفمه: (كب.. قوم شيل اهلك.. ما عندك أهل؟؟ مقطوع من شجرة؟؟ طيب الشجرة وقت تميل بتتكي وين؟؟ على اختا.. اللوبة ماقلتو نوبة!! انت اتكيت على منو؟؟ اولادك؟؟ اولاد الكلب.. انا اربيهم من قد إبرة يجو في الآخر يتفاصحوا على.. يابا إنت كبرت.. وإنت بعد دا احسن تخلي الشراب.. تشربو الشربيتة.. وجع يابا عاين لينا نحن.. الناس تقول علينا شنو؟؟ انا مالي ومال الناس؟؟ من اشتغل بالناس مات هماً.. دايرين يقتلوني اولاد الكلب.. انا عايز افرق الهم.. الهموم الراقدة بالكوم.. همك شنو يا بطران؟؟ طيب الحياة دي مسيخة.. ما فيها أي طعم.. دايرين نشوف حياة تانية.. دنيا تانية.. غير الزفت ده.. كل حاجة مافي محلها.. البصلحها منو؟؟ والله ما تصلح لي يوم الدين.. إلاّ يجيها على عبد اللطيف ولا عبد الفضيل الماظ. في هذه الاثناء يكون قد دخل أول الحي - يمر على بعضهم وهم جلوس على الكراسي وكلبهم باسطاً ذراعيه بالوصيد (عوافي يا جماعة!!) يردون تحيته: اهلاً يا كبس.. الكلب يشارك.. ولكنها مشاركة غير ودية «هو.. هو.. هو..» «جر.. جر.. يجروك لي ورا.. شوف المسخرة..» يا جار النبي.. مختار ما جاب جواب؟؟ فيجيئه الرد بالنفي - فيواصل: دحين هو في المملكة ولا الامارات؟؟ ولا ينتظر رداً على تساؤله فيستمر غير عابيء.. الناس شرّقت وعرّبت.. جماهيرية..إمارات.. مملكة.. انت اولادك وين؟؟ واحدين رياض.. واحدين بغداد.. واحدين كويت.. واحدين في سيرت!! لكن تعرف يا ابو الاكباس ولدك بتاع الرياض دا ولد مبروك.. ريالات تمام.. لكنو زعلان منك شديد.. زعلان مني؟؟ زعلان ليه؟؟ افو؟ ما عارف ملالك كمان؟؟ عامل ما عارف؟؟ ما سمعتو في الشريط قال شنو؟؟ آه معليش الواحد بعد دا يتوب ويسوي ليهو عمل لي الله كفاية كده!! اختشي يا راجل ما تحرج الاولاد.. كل يوم دا ابو ناس فلان.. ودا ابو ناس علان.. آي ابوهم.. مالي سرقت؟؟ إختلست؟؟ ختفقت؟؟ نطيت فوق بيت زول؟؟ أي شبعان ما اشبع؟؟ يا اخي حسه ما كنا كويسين؟؟ طيب خلاص بطلنا.. يا الجامع جاك زول.. صلا ورا صلا.. وحج وصيام.. صيام؟؟ كلو إلاّ السيام دا!! الزول من الصباح للعشية خشمو ما يسوي جغم؟؟ يا اخي خت الرحمن في قلبك.. انت زمان ما كنت في الصيام دا تكروني بس!.. المسخك شنو؟؟ والله يازول مع الموت الا لفحك الفحك دا احسن الواحد يرجع استغفر الله.. ثم مغمغماً «داير اتوب وارجعلك انا.. واترك الالعاب والغنا» لكين انت قايل الناس حتخليك في حالك؟؟ «شوفوا كبس قال بصلي؟؟ ده عندو صلاة؟؟ والله صلاتوا ما تنط برشا يصلي قال؟؟ الواحد يسوي السبعة.. ويجي يركع قال؟؟ يا عالم ما تخلو الناس في حالا.. خلو الخلق للخالق!! في هذا الوقت تماما يكون قد مر بالمجموعة الاخيرة.. يصيح به صوت: ياكبس.. الزمن تماما التمام.. الواحد يضبط ساعتو عليك اهلا يا ابو درش.. البنية مبروكة.. إن شاء الله من المستورات.. اصبحت جد بختك.. يوم السماية دايرين الكراع الورانية..