أهل منطقتنا يعرفون الريس (ود فضل) فهو رجل مشهور بحبه لمهنته ومعرفته بأدبيات (المراكب) وارتباطه الوثيق بالنيل وتاريخه وأحداثه في المنطقة وهو رجل طريف يستمتع العابرون النيل معه بالرحلة فيستمعون لقصصه وأمثاله بانتباه ومتعة وقد اشتهر الريس (ود فضل) رحمه الله بآرائه ونظرياته الاجتماعية لا سيما نظريته حول ارتداء (البنطلون) والتي ترفض بشدة ارتداء الرجال له إذ لم يكن وقتها معروفاً ارتداء البنطلون للنساء ، على الأقل في منطقتنا ! (ود فضل) أطلق مقولةً مسجوعةً يمجد فيها مهنته ومهناً أخرى وسلوكيات يعتقد أنها تشبه أفذاذ الرجال، وفي معرض حديثه في تمجيد هذه الأشياء تأبى نفسه إلا أن تعرّض بالبنطلون الذي يسميه (المشمط) وهي كلمة استخلصها من لفظة (تشمط) أي ارتدى لبساً ضيقاً ، يقول الريس رحمه الله : البسف السفة راجل (وهنا دعاية مجانية للتمباك تجدني ضدها) . والبسوقن ضفة راجل (وهنا دعوة للهمبتة وسرقة الإبل ونحن أيضاً ضدها). والبمسك الدفة راجل (ولا بأس بهذا الأمر فهو الريس الذي يمسك دفة المركب). ثم يختم سجعه بمقولة عن الذي يرتدي (البنطلون) فينفي عنه صفة الرجولة جملةً وتفصيلاً بكلماتٍ لا نستطيع كتابتها ! بهذه المقولة صار (ود فضل) رمزاً لمعارضة ارتداء (البنطلون) في منطقتنا واستطاع أن يكون رأياً عاماً داعماً لنظريته هذه فجعل الكثيرين ينفرون من ارتدائه ويسخرون ممن يرتديه . تذكرت أدبيات (ود فضل) والساحة الإعلامية والاجتماعية تشهد معركة الصحفية الأستاذة لبنى أحمد حسين عبر رمزية (البنطلون) وهي معركة في حدود (لبننتها) معركة مشروعة ما انحصرت في حدودها الطبيعية والواقعية والقانونية . والعلاقة بين رأي الريس (ود فضل) وهذه المعركة لا تنحصر في مادة الموضوع (البنطلون) ولكن أيضاً لنجاح الريس في دعايته المعارضة لارتدائه وفشل المعارضة في الاستفادة من الحدث الخاص بالأخت (لبنى) ، فالعمل غير المدروس والعاطفي المتهور (قزّّم) طرح المعارضين وجعله محصوراً في رمزية (البنطلون) ولو كان هؤلاء النفر بدرجة قليلة من الذكاء الإعلامي وخبرة قليلة بإدارة إعلام الأزمات لحولوا المعركة لمعركة أقوى بمفرداتٍ تحاصر الحكومة مثل (العنف ضد المرأة) أو (تقييد الحريات الشخصية) أو غير ذلك من المصطلحات الدعائية المثيرة للرأي العام العالمي والإعلام الغربي ، لكنهم جعلوها مجرد (بنطلون) حيث يستطيع أي إنسان أن يقول : لا يمكن أن تكون هذه هي المشكلة وإن صح زعمهم فالأمر لا يتجاوز خطأ شرطي عادي يمكن أن يعالج فحكومة الخرطوم لم تتحول بعد في سلوكها إلى حكومة تشبه صورة طالبان في الإعلام الغربي. ولحسن حظ الباحثين عن الحقيقة ولسوء حظ المعارضة تسارعت الأحداث فحدث شاهد مماثل اتهم فيه إعلامي بالإخلال بالآداب العامة كما اتهمت (لبنى) واقتيد كما اقتيدت فسار في قضيته بكل وعي مركزاً على البعد القانوني لتنتهي القضية لصالحه ويتحول من متهم إلى شاكٍ وبذلك حرر شهادتين: الأولى : كون خطأ الموظف العام من الشرطة أو الجيش أو الأطباء أو المعلمين أو الإعلاميين أو أفراد الضرائب أو حتى الدبلوماسيين أو غيرهم لا يحسب على سياسة الدولة ، أية الدولة . الثانية : أكد أن أي إنسان واعٍ يمكن أن يأخذ حقه بالقانون وبلا ضوضاء . والأستاذة (لبنى) شخصية مثقفة وواعية يمكن أن تصل لحقها إذا سارت بنفس الدرب وبهدوء ، لكنها في غمرة الانفعال وقعت في أخطاء استفاد منها بعض السياسيين الاستغلاليين ولو تركوها في حدودها الموضوعية لكان التعاطف أقوى إذ سيكون صف المتعاطفين من المعارضة وغير المعارضة أو قل ممن يؤمنون بعدالة قضيتها بغض النظر عن انتمائهم السياسي . لقد أحسنت الأخت الأستاذة (لبنى) في نقطتين على الأقل ، حديثها عن الشريعة الإسلامية وأنها لا ترى في قوانينها ما يظلم المرأة ، فهذا حديث إيجابي وإن عرّض بالحكومة أو بقوانين البلاد . وكذلك حديثها عن حصانتها ثم تنفيذها لما رأت ، هو أيضاً عمل إيجابي لكنه يفجر تساؤلاً مهماً ، هل الموظف التابع لمنظمة دولية لا يحاسب قانوناً إذا أخطأ ؟ لا أعتقد أن هنالك إجراءات قانونية تتخذ لمحاسبته، ووفرت الأستاذة (لبنى) على رجال القانون (مشقة) تلك الإجراءات . أما بعض الأحاديث التي نسبتها الصحافة ل (لبنى) فتحتاج لإعادة تقويم مثل كونها لا تريد (عفواً رئاسياً) فما هي صلة العفو الرئاسي بهذا الحدث ؟ وهل عرضت رئاسة الجمهورية هذا الأمر ؟ أعتقد أن في الأمر تقديراً خاطئاً إما للحدث وإما للذات . ماذا ستفعل الدولة تجاه تهمة قانونية طريق الدفاع فيها مفتوح والتقاضي فيها مشروع ويمكن لأصغر محامٍ أن يكسبها والمتهمة فيها ما زالت بريئة لم تثبت إدانتها والجرم ليس له صلة بالسياسة ولا بالأمن القومي . ربما نقول استطاعت المعارضة في بداية المعركة تصوير الحكومة وكأنها الريس (ود فضل) ضد البنطلون لكن وضع كثير من (التوابل) على المادة الرئيسية أفسد (الطبخ) وشوه المذاق وبين الصورة (التهريجية) في هذا الموضوع . ملخص ما نود قوله: لقد استغلت القضية سياسياً بطريقةٍ انفعالية تخلو من الذكاء ولكن سحر الأمر انقلب على ساحره فقد علم الناس أن حكومة الخرطوم لا يمكن أن تكون الريس (ود فضل) في مركبه إذا ارتضت همت المعارضة أن تقف عند (البنطلون) . ورمضان كريم ...