“من العبقرية أن تقاوم ما تحب، وأن تحب ما تكره .. والفرق بين الشخص العبقري والعادي : أن الأول يخترق حجاب المعقول، ويخرج عن إسار العادة .. والعارفون بالله يقولون إن أهم شرط من شروط العالم هو خرق العوائد” ! .. الكلام للدكتور (مصطفى محمود) العالم والمفكر المصري الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، قبل أن تنال السنون من عافيته فيلزم بيته ويعتزل الناس وأجهزة الإعلام ! .. قبل فترة تثاءب معدو أحد البرامج وتمطوا .. قبل أن يتذكروا الدكتور (مصطفى محمود) .. أظنهم رأوا في الاطمئنان على صحته أمام المايكروفون والعدسات سبقاً إعلامياً ما .. فهرعوا إلي بيته .. إنما ما الذي أظهروه للناس ؟! .. رجل طاعن في السن نال المرض من صحته، والكبر من ذاكرته وتركيزه الشيء الكثير .. أحنقني جداً منظر المحاورة الشابة وهي تلح في استنطاق شيخ طاعن السن كليل العين، زائغ النظر، مشتت الفكر بفعل المرض عن أحوال صحته البدنية والعقلية ! .. بدا لي يومها (مصطفى محمود) العالم المفكر الفيلسوف، الذي كان ملء الأسماع والأبصار في حال تمنيت لو احترم الإعلام عزلته، وتركه عليها .. ناقلاً أخبار صحته بكلمات مقتضبة على لسان البرنامج .. وكفى ! .. آخر ظهور إعلامي للكثير من المثقفين والمفكرين والسياسيين يثير الكثير من اللغط وردود الأفعال التي يكونون في غنى عنها، ولو تركوا لحالهم، لبقيت صورهم المتوهجة خالدة في أذهان الناس ! .. العباقرة ليسوا كاملين .. وهم لا يموتون على ما ولدوا عليه من عبقرية .. فمعظمهم قد نال منه الزمن أو المرض في يوم ما، أو خذلته بعض الظروف، لكن الحظ حالفه في إبقاء تلك الظروف بعيدة عن عيون العامة، حتى إذا ما بهت وهج العبقرية بقيت الصورة المتألقة حية، خالدة في أذهان الناس ! .. مشكلة أجهزة الإعلام المحلية والإقليمية عندنا أنها تتعامل مع هؤلاء وأولئك بمحبة (مؤذية) مثل محبة الدب الذي هشم رأس صاحبه وهو يظن نفسه يريحه من إزعاج ذبابة حطت عليه ! .. الظهور الإعلامي المباشر وليس من وراء حجاب المنجزات السياسية أو الفنية أو الفكرية له شروط وضوابط، أولها وأولاها أن يضيف هذا الظهور إلى رصيد المبدع، لا أن يكون خصماً على صورته المحفورة في أذهان الناس ! .. عدم إغفال هذه التفاصيل لون فاقع من ألوان الفرق بيننا نحن الأفارقة والعرب، والآخرون المنتمون إلى مجتمعات العالم الأول، فلمبدعيهم مستشارون مختصون بالظهور الإعلامي كقرار تسبقه دراسة للحال الصحية، والاستعداد النفسي، والكفاءة الذهنية، وشحذ الهمة وصقل الحضور للخروج من التجربة بنجاح يضيف إلى رصيد المبدع ! .. بينما عندنا يظهر السياسي أو الفنان .. إلخ .. وكأنه يتكئ على إرث الماضي ويعوِّل على منجزات شبابه الآفل في فرض ذوق الزمن الجميل .. وقناعات الزمن الجميل .. وأفكار الزمن الجميل .. وفتوحات الزمن الجميل .. على مشاهد ومستمع وقارئ زماننا الرديء بحسبه والويل كل الويل لمن يقول (بغم) !