تقف الشرطة عند تفاريق الطريق. وعبارة ";تفاريق الطريق"; استفدتها منذ أيام من كتاب للدكتور الترابي ذي الديباجة العربية الحسنة. فالشرطة الآن بين طريقين شتى: مستقيم وأعوج. أما الأعوج فهو تشبثها بما تعودت من النظامية والمركزية التي طرأت عليها خلال سنوات الاستقلال الخمسين الأخيرة. وهي السنوات التي غلب فيها حكم المستبدين و";هَدّ"; على الشرطة كما لم ";يهد"; حتى على القوات المسلحة التي حكم هؤلاء المستبدون باسمها. وأما الطريق المستقيم فهو ما تواضعت عليه الأمة في نيفاشا وأبوجا وأسمرا تباعاً لكسر صورة الدولة المستبدة بما سينسحب سلباً على ما تعودته الشرطة من زمانها: النظامية والمركزية. وتقتضي وقفة تفاريق الطريق هذه رباطة جأش في تحري الحق، وتوقي شح النفس، ونبذ ما وجدنا عليه الآباء . . . بقوة. والفرض في هذه الوقفة، طالما كنا نتكلم عن قوة نظامية تقتحم الوغي مستبسلة، أن تتميز بالشجاعة في الجبهة الثانية، وهي جبهة تؤمن الشرطة فيها الوطن منها هي نفسها. وسبيلها إلى ذلك هو أن تتنزل عند الإرادة الوطنية التي أعادت التفاوض في الوطن وتواثقت عند عهود هي الفيصل في عاقبتنا ولا تبديل لها إلا بالموعظة الحسنة لا العتو المهني والفرح بكسبه. لست متفائلاً أن الشرطة ستوفق في اجتياز امتحان تفاريق الطريق بغير لبس. فلم تنشأ المهن والمهنيون عندنا على عادة الوقفة الناقدة حيال الذات. بل نشأت هذه المهن على عادة تقمص دور الضحية متى دعاها الداعي إلى نزال الذات. فهي من الكاتمين شح النفس والمبادرة لإلقاء اللوم عند التقصير على جماعة أو هيئة أو ما شئت من الآخرين. فقد عالجت في كتاب لي قادم كيف خسرت القضائية للرئيس نميري حين أبلسته (على حق بالطبع) بينما حجبت حقائق وهنها الباطني عن نفسها. ووقفت عن تجربة شخصية على خسران هيئة التدريس بجامعة الخرطوم لأنها تظلمت من النميري والانقاذ بحق ولكنها لم تتظلم من نفسها بما فيه الكفاية. وسنجد عادة المهن في الاستعلاء على تفتيش الذات ونقدها فاشياً في المهن الأخرى متى توفرنا على درسها واحدة بعد الأخرى. ووطنني على سوء الظن في قدرة الشرطة على اجتياز امتحان تفاريق الطريق ما رأيت من تورطها في عادة المهن عندنا وهي تعليق متاعبها عند أقرب شجرة خصم. فقد أوحت الشرطة، وهي تواجه امتحان ما بعد نيفاشا، أن مشكلتها الحقة هي والي الخرطوم. وهو وال قد خلت من قبله الولاة. وقد انتخبته الشرطة خصماً لدوداً وحيداً لأنها لا تريد التصالح مهنياً مع حقيقة ولائية الشرطة التي وقعت لنا في سياق تفكيك مراكز الإدارة في السودان القديم. ثم عادت و أوحت أنها على حق لولا أن ";رجلاً خفياً"; قد تطفل بتعديلات جوهرية على مشروعها لقانون الشرطة وهو في طريقه إلى المجلس الوطني بعد إجازته من مجلس الوزراء. وقاريء هذه التعديلات سيجد أنها ردت المشروع لمواثيق نيفاشا وما بعده ودستور 5002 الانتقالي رداً جميلاً. فلولا هذه التعديلات لكانت تلك المواثيق والدستور كأن لم تكن. واستدراك الرجل الخفي مؤسف، لا من حيث رد من شرعوا للشرطة جزافاً، بل من حيث ";سريته"; التي جعلته يبدو كخفة يد تشريعية بغير حاجة والحق أبلج. ولم استبشر أيضاً بإلقاء الشرطة لمتاعبها المهنية عند تفاريق الطريق على الحركة الشعبية. فهناك الكثير مما يؤخذ عليها في ملابسات تحولها من الحرب إلى السلم. وليس من حسن السياسية (التي هي تأليف وبذل ندي) أن تعتزلها الشرطة وتحقن عليها. وانتظرت من السيد وزير الداخلية، الدكتور الزبير بشير، أن يعتذر عن اقتحام الشرطة لبعض دور الحركة اقتحاماً لم أجد سبباً ليخفيه عن قيادة الحركة العليا طالما امتلك الأدلة الدامغة التي أذاعها على الصحف على إخلال تلك الدور بالأمن. وانزعجت لوصفه محاولة السيد نافع على نافع، الزعيم بالمؤتمر الوطني، رتق الفتق مع الحركة بأنه معادلة سياسية لا مكان لها في إعراب الشرطة. وبدا لي أن الذي غلب على الوزير هو الزبيرالجهادي لا الزبير خبير علم النفس وأستاذه. وتجدني قليل الأمل في نجاح قيادة الداخلية والشرطة في إدارة النقاش المنتظر بين ظهرانيها لتهيئة قوتها لمستحقات تفاريق الطريق. فقد وجدت الفريق شرطة الفريق أول محجوب حسن سعد يطوف على الوحدات خلال صراع ولائية الشرطة ومركزيتها بما يشبه التعبئة في خط المواجهة لا التربية المهنية على وجوب تلك المستحقات والتنزل عندها عملاً خالصاً للوطن. ولم يسعفني حتى المعاشيون من قادة الشرطة مثل الفريق معاش عثمان احمد فقراي في تغذية الأمل في أن بوسع الشرطة اجتياز اختبار تفاريق الطريق. فقد وجدتهم يعيدون في أحاديثهم إنتاج عقيدة الشرطة المركزية القابضة بحذافيرها ولنَبِل نيفاشا وأبوجا وأسمرا والدستور الانتقالي ونشرب ماءها. فلا تعير قيادة الشرطة بعض الحقائق الأخرى المترتبة على تلك المواثيق التي خرقت تلك العقيدة. فهي تتكلم عن أن ولائية الشرطة ستؤدي إلى غلبة السياسات المحلية عليها الشيء الذي لن يحدث إذا ظلت الشرطة النظامية. ويغفل هؤلاء القادة عن أن الشرطة النظامية الحاضرة هي ثمرة سياسية لنظم حزبية-عسكرية لا يمكن وصفها بالقومية بأي صورة من الصور. وهي نظم تمكنت بالشرطة وغيرها من فرض حكمها على السكان. بل يغفل هؤلاء القادة أنه يجري تحت نظرهم وسمعهم تعيين أبناء الهامش ";المتمرد"; جماعياً في القوى النظامية بصورة لا تتسق وفهمهم للتجنيد في مثل هذه القوى. فيكفي أنه وقبل أن يجف حديث هؤلاء القادة عن نظامية الشرطة وترفعها عن التعيين ";القبلي"; المحلي أعلنت السلطات استيعاب 1797من قوات الشرق ";القبائلية"; بالجيش والشرطة. وتنفيذاً لعهد أبوجا تعين 4 آلاف من أبناء ولاية دارفور بالقوات المسلحة وألف في الشرطة. ولم تهدأ ثائرة النقاش حول أوضاع الشرطة من جهة الغلو في استثماراتها حتى أعلن المراجع العام رفضها أن تخضع الأموال المجنبة واستثمارات الشرطة وجامعة الرباط الوطني للمراجعة. ولا أفصل وأنت لا تقصر. إن نجاح الشرطة في اختبار تفاريق الطريق رهين بوقفة مزلزلة مع الذات يستثيرها جراب رأي (think tank) بجامعة الرباط، المستعصمة بالبعد عنا، بصورة وطيدة مع قادة الشرطة وأفرادها والمجتمع وسيجد جراب الرأي هذا فيما كتبه بعض أميز قادة الرأي عندنا مثل الأساتذة محجوب محمد صالح وعبد العزيز خالد وإسماعيل آدم وحيدر المكاشفي ومحمد النعيم وأحمد المصطفي إبراهيم (الثاني) مادة هي بمثابة إهداء العيوب المأثورة. أخشى ان يكون حال الشرطة عند تفاريق الدروب هو حال المتنبيء عندها. فقد قال إنه ما افترقت الطرق وتشعبت أمامه حتى كان: وإذ أهدى الطريقين التي اتجنب وما أعرف من رسم الطريق الغراء التي تتجنبها الشرطة مثل العميد معاش أح عبد العزيز خالد. ونعود إليه نستعرض الكلمة الضافية التي كتبها عن النزاع حول مشروع قانون الشرطة لعام 2007.