ضيعت زمناً أخط رسوماً من ماء العنب وماء الورد. واتسكع مع نساء الموانيء. غنيت ودوبيت وبكيت. وملأت العالم صراخاً. ضحكت وغازلت تلميذات المدارس وقضيت ساعات طويلة أقلب في الكتب القديمة أبحث عن اسماء نساء مدن استباحها التاريخ. وما عثرت علي حرف واحد من اسمها وما كان ثمة من خيالها. كل ذلك والبنت بسرورها وعظمتها في فريق ريدها في صفا وتأمين. مستمتعة بدلالها وجمال نفسها وضحكت نفسها وغمازتيها ومعرفة ما بلغت الفطام. ولماذا تعرف؟.. لماذا تعرف ان هذا العالم أبعد من جبال المرخيات وهي حتى لم تر هذه الجبال. لماذا تعرف أنه شرقاً أبعد من ضفة النيل الأخرى وجنوباً أبعد من خور ضرب نار وشمالاً أبعد من الكباجاب.. «علا ودستونه مجنون.. كان مشى أبعد من كدي ياهو الوقع» أين؟ حتى هي لا تدري. *** جئت تلك المدينة الخليجية الصغيرة دخلت بصمت كأني أتسلل خفية. لم يحس بي أحد ولم يهش بقدومي أحد فما عادت المدن تحتفى بقدومي إليها «كترت الطلة تمسخ خلايق الله» كانت دعوة من صديق. وما كان في خاطري أن أطيل البقاء. وما كانت الاقامة في هذه المدينة من ضمن مشاريعي أو في خطتي. فالطريق من كيلك إلى بابنوسة لا يمر بها. مدينة صغيرة تضع مؤخرتها علي اليابسة وتتحسس بقدميها دفء مياه الخليج. عرض على عملاً بعد فترة قصيرة من قدومي «معقب» في شركة مقاولات صغيرة. كان على أن انجز معاملات الشركة في الدوائر الحكومية وغيرها.. التصديق علي الخرط الهندسية لدى الجهة المختصة وتصاديق البناء ومتابعة المكاتبات بين الشركة ومن تتعامل معهم. كما ان على واجب استخراج تأشيرات الدخول والخروج واستخراج الاقامات والغائها إذا استدعى الأمر. جل العاملين كانوا من الاجانب. السن وسحنات وأجناس من بلدان شتى. كنت أسكن في غرفة صغيرة قامت وسط حوش واسع. استطالت على جنباته اشجار الكافور. والخالي من المساحة غطته نباتات السافنا التي تغالب الظمأ. من تحتها تفلتت الحرباوات وقد حفرت هوام الارض الاركان. للغرفة رائحة السوس ورائحة بيت الخليفة في غرفة الوسطية رائحة عرس كان هنا وموتاً كان هنا ورائحة طين قديم ومطر قديم.. ورائحة من تعاقبوا عليها وما طحنوه وما طعموه. إضطجعت على السرير الوحيد. كانت الساعة القيلولة. على الطاولة أمامي كوب زجاجي وماكينة حلاقة وعلبة سجائر مارليبورو وولاعة بلاستيك وزجاجة كولونيا ثم لا شئ.. آه.. الفيتوري «وأن حقائب الاطفال فارغة من الأعياد والحلوى». كان كل شئ يبدو حقيقياً.. ووهماً.. النوم واليقظة.. والضحك والبكاء.. تساوت الاشياء. اليوم وغداً والماضي والحاضر .. الأن وما لن يأتي أبداً.. الاحلام والكوابيس.. والعاب السحرة.. وكذبة ابريل وعقلة الاصبع.. وحوريات البحر.. وكمان بلا أوتار يعزف صفير الريح.. لحن موزارت الجنائزي.. توب شدر.. وسوق أم سويقو.. وسوق الباريا شفتو.. وقطر الخميس الفات. من النافذة رأيت ريحاً تثقب الأرض. وتندفع خارجة ومتحركة في دوران عنيف أهتزت اشجار الكافور حتى كادت ان تتقوس تساقطت ثمارها التي تشبه ثمار الفاصوليا الخضراء. طارت العصافير وحين اعتدلت كانت الاشجار خاملة للذاكرة عدم تراتبية تحسد عليها كما أنها عصية على الانضباط فهي ليست روزنامة تأتي فيها الايام يوماً بعد آخر وشهراً بعد شهر وحدثاً بعد اخر انها سلة كبيرة توضع فيها كل هذه الاشياء فتختلط ايام وشهور واعوام واحداث ووجوه وامكنة وروائح وطعم اشياء سينما برمبل.. بابكر بدري.. يوسف ميخائيل.. النور عنقرة.. وطرابيش الخديويين وكلية غردون.. وأيا عزة ما ينسى مودتك القلب. زخم لا يعرف له سبب أو مناسبة. وجدت تلك الصبية من اسكوبيا الباب موارباً فحشرت نفسها. خدرتني الذكرى فاستكنت لها. قابلتها في حدائق كليمكدان.. في بلغراد.. تعارفنا بكلمات قليلة وأراد الله ان تضحك. فضحكت. فعلت بي الدهشة ما تفعله بأبله. فتحت فمي ببلاهة ورفعت حاجبي ببلاهة وأتسعت حدقتا عيني ببلاهة. فضحكت مرة ثانية. وكما ان النهر لايمر من تحت الجسر مرتين، فالدهشة لا تتكرر لنفس الفعل مرتين. لكن تلك الصبية لو ضحكت مائة مرة لدهشت مائة مرة.. الضحكة هي... هي.. «الخالق الناطق» بدأتها تحية بللي من مكانها البعيد وتناولتها تلك الصبية من اسكوبيا واكملتها في حدائق كليمكدان. ترى من فيهن النسخة التايوانية. ثرثرنا وتمشينا وأنا اواصل اكتشافاتي عن مدى تطابق النسختين سلوكاً وتصرفات وضحكاً وحديثاً. حتى أني احسست بشعاع من طعم تلك الرائحة بين الشاي والنعناع. قالت ان أحدي جداتها كانت محظية في بلاط السلطان عبد الحميد. وضعت زهوراً على قبره الملوكي في حدائق كليمكدان. ثرثرنا وتمشينا. جلست على العشب عند قدمي حصان تمثال البارتزان. مدت قدميها أمامها. وبحركة تنتمي تماماً لتحية بللي قذفت بخصل شعرها إلى مؤخرة رأسها الصغير. كان الهواء يداعب وشاحها البرتقالي فيتساقط منه برتقال شفاف كفقاقيع الصابون. اسبلت عينيها وبدأت تدندن ثم غنت أغنية مادونا «الحب يجعل الأرض تدور». الاغنية.. الدندنة.. الصوت.. أجمل ما باحت به كرزتان. قليل من الناس يكون جميلاً حين يغني. لكنها كانت أجمل.. قعدت الكلمات.. أهملتها حتى ان الاغنية سرحت بعيداً.. تركتها لتستريح ثم عادت فألححت عليها فنزفت. ودمعت عيناها.. اتكأت برأسها علي قدم حصان البارتزان واستكانت للنوم الجميل. قفت لدقائق أقل من عدد الأصابع ثم فتحت عينيها في بطء كأنها تخاف الضوء.. فكانتا صافيتين ومتوهجتين كأنها ما غنت وما دمعت وما نامت. ثرثرنا وتمشينا قلت لها انها جميلة. ضحكت وقالت.. حتى أنني مللت ذلك. يومان تبعتها فيهما كظلها وجمالها.. عينان حزينتان كالمنافي. رحلت في قطار. أتجه شمالاً. قالت أنها لا تحتمل الصحبة أكثر من ذلك. وأنها تفضل الوحدة. الوحدة شرط الحرية وطريق مفتوح لاحتمالات البنفسج. ودعتها في محطة القطارات المركزية وعدت مشياً، هل ننسى أياماً مضت. ترى من فيهن النسخة التايوانية. *** ما زلت على السرير الوحيد. الأفكار تغسلني كما يغسل المطر الأشجار. تدخلني الأشياء براحتها. وتخرج على أقل من مهلها هادئاً وصارم القسمات.. «هل رأيتم الهول الأشد؟ وجهي حين أكون هادئاً.. مايكوفسكي» على الجدار المقابل لسريري صور.. بوب مارلي.. وعبد الله التعايشي. والنعام آدم. وبقرة اليتامى.. الموتى ماتوا والأحياء لن تجدهم في الأماكن التي تركتهم فيها. تحية بللي ماتت أثناء الوضوع في إضراب الاطباء عام 5891م وأبو قنبور هو الأخر مات ووجدت جثته في العمق القديم لخور أبو عنجة. كان مخموراً. دفنوه في مقابر البكري. سأل أحد المشيعين آخر.. تفتكر القنبور قطعوه؟.. أجاب الآخر.. لازم... عاد الأول للسؤال.. لكن بعدين يعرفوه كيف؟!.. فأجاب الآخر .. بعدين بنادوهم باسماء أمهاتهم وليس بقنابيرهم. «حسن ود ستونة ما عنده مشكلة في الدنيا كان حسن ود ستونة.. وبعدين حيكون حسن ود ستونة.. المخلص ود النديهة». أبو قنبور بعد العرس ما طاقها فارغة أبداً كان قد ترك المدرسة منذ سنوات توفى أبوه ثم أمه. وكفلته جدته بعدهما ويقال أنها كانت أجمل النساء في زمانها ألف فيها الشعراء الأغاني ولقبوها «بجنينة النزهة» ولعل أبو قنبور ورث عنها وسامة لا تخطئها العين وشيئاً من البله وقد قال البعض إن الجمال حين يزيد عن حده غالباً ما يحدث نقصاً في مكان ما من الانسان. توفيت هي الأخرى. بعدها دخل أبو قنبور السوق. لم يدخله بمال. دخل بأكتافه وبقنبور فأل وبركة ووصية من الشيخ حسن ود حسونة. يقضي نهاره يشيل ويحمل عربات النقل. ويطارد صبية السوق حين يتلاعبون بقنبوره. وقبل ان تغيب الشمس يخرج من السوق إلى أماكن يعرفها وأصحاب يعرفهم. ينهل وينهل لا يتوقف حتى يرى القمر قمرين. يجرجر اقدامه إلى مقابر البكري. يتوقف عند طرف من أطرافها ويسلم «السلام عليكم يا أهل القبور.. الليلة كيف أمسيتو يا ملوك أم در.. يبقى لينا نسيتو..» يغني ويحاول بوعي مخمور ان يكون صوته جميلاً. يجلس على الأرض ويبكي كمن فقد عزيزاً في تلك اللحظة. يستغفر.. «معليش.. بكرة نبقى ملوك زيكم.. وتتساوى الكتوف» ينهض ويسير داخل المقابر يقع ويقوم حتى يصل استراحة معلومة. يستلقى على برش وينام. ما غاب يوماً ولا بات في مكان آخر. هنا ينام حيث نام الملوك نومتهم الأخيرة.. شجرة تفرعت فروعها وتكاثرت أوراقها وما ضاقت هذه المقابر بورقة اسقطتها الريح. كان أهل القصيرية حين يرونه قادماً صباحاً يتصيدونه سائلين.. اها يا أبو قنبور نمت وين أمس؟ فيجيب: وين يعني؟.. مع الملوك. ..................... «ود النديهة» هو من بقى في البلد من أصحاب مع عصافيره وحماماته.