أقدم لك مفتاح مدينتي ليس من الذهب المفتاح وليس من فضة مفتاحها مفتاح مدينتي من طين خلاصة الخلاصة من طمي النيل ورمل الصحراء ..................... أم درمان ليلاه التي لم يتغن بسواها.راحلاً في كل الفجاج وهو يصر وسامتها في قلبه. لتتهمس في كنانة روحه. فيتهدج بها صوته الكهفي العميق. كيف لا وهي أبداً محجة أفكاره ومركز حسه.فهو وكما البرجل الهندسي يتركز عندها بساق. ويدور بالأخرى ليتمم دائرته الإنسانية و الإبداعية المحكمة. كهالة غاصة بالضوء هي إكليل غاره الأزلي على هامة أم درمان. يعلنها علي المك بتعلق طفولي (أنا متحيز جداً لمدينتي). وهل حقاً يكتب إلاّ مستملياً منها. متطوفاً بأركانها. مستأنساً بأزقتها الضيقة في (المشوار من محطة مكي لمحطة مكي). مروراً بالزقاق الذي يراه مختلفاً بعين التخيال البصيرة. (الزقاق لو أشبه نهيراً صغيراً لصب في الشارع الكبير.الذي هو كالبحر حيتانه الناس وامواجه الناس. ذلك الزقاق كل فضله أنه قريب من السوق.لو دخلته افضى بك إلى السوق. ولو لم تسر فيه صرت أيضاً إلى السوق). ويستمر في مراقبة ذلك الرواق العجيب.الذي هو مسرح (للدافوري) الحار عصراً . وساحة للصوص ليلاً يغريهم بظلامه وتعرجه. أما عند ضفة النيل فيهب علي المك اهتمامه الشغوف للسور. درع أم درمان الطيني الحصين في وجه من يجرؤ على خوض صفاها. (السور الذي هو عند النيل في الجنوب الشرقي أثر يخلب اللب. حقاً انه ليس في قوة الأهرام. لكنه خالد جداً ويذكرنا بأننا سودانيون). ويقف المدنف ليطأطيء قلبه حباً لجامع الخليفة. بساحته الوسيعة التي يحلم ان تُشيد عليها مئذنة تطاول السحاب. ويناجيه وحلمه أسير اقبية الواقع (الرمل والتراب فيك ابسطة. والحصى سجادة سخية الألوان من تبريز). ويتجول علي المك هنا وهناك متلمساًً بحسه و حواسه دخائل أم در و جوانياتها. أو كما قال عنه خدنه صلاح أحمد ابراهيم (يتنطس اسرارها واثب العين. منتبه الأذنين يحدث أخبارها). وتترقرق لمعة دمعه و هو يناجي أم درمانه الكظيمة مُدركاً لعنتها و طول اصطبارها. (يخنقها الترك والانجليز وبعض أهلها وهي صابرة). ويملأ مسامعه منها وهو يكرع من صوت صبيتها وهم يستسقون (يامطيرة صبي لينا في عينينا).و من إرزام طبول الحوليات. وجوقات الإنشاد بلوحاتها البشرية.و براياتها الملونة وشاراتها الخضراء الصفراء الغبشاء. هناك يعتفر علي ترابها جذلاً.حتى طعم (الفولية) يجد مكانه محفوظاً بين أفياء تلك الذاكرة الرحبة.الشغوفة برصد أدق ما يقع عليه حسه الرهيف. وبفوح مستقطر من عطر الإلفة و المحبة يُعدّن علي في طبقات منجم جمالي عظيم لأم درمانه.بتنقيب عارفٍ يدرك مكامن عروق نفائسها المدخورة.مُتجسداً في أهلها منفتحي السريرة طيبي الطوية.و الذين لا يجد طمأنينته الأصيلة إلا بينهم . حيث تفيض نصوصه بأسماء و سحنات من يجالسهم ويباسطهم ويمازحهم.أحمد الاسكافي و ابراهيم الفرجة وسيد أحمد بائع اللبن .و هناك ايضاً عيشة ست الطعمية و غيرها. و في وحشة الغربة وبردها الذي يستوطن نخاع العظم يستدفئ علي باستحضار تلك الوجوه و القسمات المؤنسة.(وجوه الناس في الغربة تذكرني بوجوه في أم درمان.هذا يشبه فلان الذي في سوق أم درمان). حتى عيون الشحاذ الأجنبي الخضراء الدامعة يرى في خضرتها ورق النيم والجميز . فيذكي ذلك وجده حتى يجهش (كم أحبك يا أم درمان يا حاضرة الطين والقش والناس الأكرمين).و يمضي تتسلق أعينه الأبنية الاسمنتية الشاهقة.ذات الكبرياء و الصلف. فيفاخرها بأمدرمانه الأجمل و الأعذب.(أنتِ يامدينتي القديمة الشائهة. يا ذات الخيران والزبالة والبعوض.. أحبكِ بكل ما فيكِ من عذاب وألم). ويفيض وجده حتى ليتمنى أن تتحول مادة انفعالاته تلك إلى تشكيل بصري حاذق. (أريد أن أرسم كرومة. أريد أن أرسم صوته ورقه الضارب في أوتار القلب). وتتداعى لعلي المعاني وهو يُحدث عن خليل فرح (كلماته عسل أمادي. وشربة ماء في تيه الصحراء). وحين تتمدد بينه وبين أم درمانه الأطوال والأميال، يشكو على وحاله كحال طعين نازف تلكأ مسعفوه. (إن لهذه البقعة حسناً لاتدركه الأبصار.ولا تعرفه الأنفس أو تحس به إلا حين تفارقها). و هو حقاً لم يطق لها فراقاً فعاد علي المك باراً كعهده ليتوسد صدرها. و(ليرقد في حفرة جمعت عاشقين)! ? العنوان منسوج من قصيدة (قال النديم) لعبدالقادرالكتيابي