قال تعالى: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلمَ من بعد علم شيئًا) (سورة النحل)، كما قال سبحانه وتعالى: (وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الْخَلْقِ) (سورة يس) صدق الله العظيم. وفي عاميتنا دعوة بليغة تقول: (يا ربي من القوّة للهوّة)، يدعو بها كبارنا العارفون بمتاعب (بشتنة) أرذل العمر ثلاثية الإعاقة: (الكبر) و(الخرف) وثالثها (المرض). والدعوة التي يحمل ظاهرها معنى الدعاء على النفس بالموت.. ف(القوة) هي تمام العافية والمروّة و(الهوة) هي الحفرة العميقة أي القبر، أو كما قال فكي (أبكر): محل بردموكم ردم لكن باطنها يحمل تضرعاً لله كي يقيهم شرور أرذل العمر، وأن ينعم عليهم الله بميتة هينة سريعة لا يسبقها طول رقاد من مرض أو هرم، وبذلك يكفيهم مشقة التعويل على الآخرين في تدبر شؤونهم، وحسن ظنهم في (بر أبنائهم) وعشمهم في صبر هؤلاء الأبناء على حسن رعايتهم عندما (يرتدون) إلى عالم الطفولة في أرذل العمر، ويصيرونا مثل الأطفال أحوج ما يكونون إلى الحب والحنان والإطعام و(الحمّام). وفي تلك الأخيرة –الحمّام- قصة حكتها لي صديقة عزيزة لأسرتنا، عندما سمعتها ذات مرة تدعو لشقيقتي لأنها (أم صبيان) بأن يكفيها الله شر بشتنة الكبر فقالت: عاد يختي.. بعدين الله يكفيك شر حمّام المقاشيش. شدّني مصطلح (حمّام المقاشيش) ورفع قرني استشعاري الشماريين، وقبل أن أتدخل وأطلب تفسيراً رسمياً لهذه الدعوة سألتني صديقتنا: انت يا (منى) سمعت بي حمام المقاشيش؟ أجبتها بأنْ (عاد يطرشني)، فتبرعت لي بالحكاية التي تحمل الكثير من العبر لمن يعتبر: تحكي قصة الدعوة التي صارت مثلاً يضرب لمعاناة أرذل العمر، عن سيدة كان نصيبها من الذرية ابنين توقفت بعدهما عن الإنجاب قبل أن تسعد ب(البنيّة حلاتا).. عكفت السيدة على تربية أبنائها الاثنين ولم تبخل عليهما بشيء من عافية بدنها، أو محنة قلبها حتى استوى عودهما وصارا رجالاً، فزوجتهما وأفردت لهما مكاناً ليعيشا معها في البيت بعد وفاة أبيهما، فعاشوا جميعا تحت مظلة حنانها وعطفها ورعايتها الشاملة. ولكن لأن (دوام الحال من المحال)، وكما غنى (أونسة) فقد مرت (ايام ورا أيام واتكاملت أعوام).. مرّت سنوات تغيرت فيها مراكز اتخاذ القرار، وتحولت سلطات تصريف شؤون مملكتها الصغيرة رويداً رويداً من بين يديها إلى يدي زوجتي ابنيها. ثم مرت تآآآني سنوات وسنوات كبرت فيها هذه السيدة وأصابها الهرم بالحجز والمرض، فصارت لا تقوى على الحركة إلا بمشقة شديدة، ثم ارتدت إلى طفلة صغيرة لا تستطيع التحكم حتى في ما يخرج من السبيلين. وهنا (عافتها) السليفتان وتضجرتا من رعايتها والحفاظ على نظافتها الشخصية، ولكن لأنهما من ملة الناس ال(تخاف ما تختشيش)، كما يقول المصريون، فقد كانتا تحرصان على نظافة نسيبتهما العجوز خوفاً من ابنيها –زوجيهما– لذلك ابتكرتا طريقة (فعّالة) تتيح لهما تنظيف مخلفات العجوز دون أن تضطرا لتلويث أيديهما بها، فكانتا تحملان نسيبتهما وتضعانها في (نص الحوش) ثم تحمل احداهما خرطوم المياه وتحمل الأخرى المقشاشة، وبعد أن تجرداها من الثياب تفتحان صنبور المياه وتقومان بعد صب الصابون السائل عليها بتحميمها ب(المقشاشة)!!. طبعاً كل هذا يحدث من وراء ظهر الأبناء القاعدين في (أضان طرش) عما يحدث لأمهما، فعندما يعودان للبيت يجدانها نظيفة تلمع و(تراري) ومكرفسة زي اللقمة في نص السرير!!. ذكرتني قصة المثل ببكاء سيدة عجوز من معارفنا عندما توفيت ابنتها الوحيدة، وكانت تعشم أن تكبر وتخرف تحت رعايتها بدلاً عن أن تبكيها.. قالت: يا حليلة البتعدل الحالة المايلة.. وتقش الريالة السايلة. وقبل أن نضع اللوم على انعدام بر الأبناء وقلة حرصهم على رعاية آبائهم في الكبر، علينا تدبر الحكمة التي تقول (داين تدان)، فقبل اجتهادنا في رعاية آبائنا وكبارنا كي يرعانا أبناؤنا في المستقبل.. علينا أيضاً مراقبة الله في عافيتنا وشبابنا فيما نبليه حتى ننعم بشيخوخة كريمة نبليها بي عرق العافية. قيل في الأثر أن شاباً خرج مع أحد الصالحين لنزهة، وكان هذا الصالح قد بلغ من الكبر عتيا.. فلما جاء ليركب القارب قفز كقفزة الشاب أو أجمل، فتعجب منه رفيقه فقال له بثبات المؤمن: حفظناها في صغرنا فحفظها الله لنا في كبرنا!!.