أهم جانب تتمسك وتعتز به أية عاصمة في العالم هو المحافظة على المعالم والمباني التاريخية، وبنفس القدر المحافظة على الطابع المعماري المميز لها، فشهرة لندن استندت إلى ملامحها ومعالمها ومبانيها التي شيدت قبل مئات السنين في المدن والضواحي والأحياء ، جميعها ذات طابق واحد، وحديقة صغيرة أمامها، وساحة أخرى مماثلة خلفها، وأخذت هذه المعالم طريقها لوجدان وعقول أهلها ثم زوارها الملايين في كل عام، وقد احتاج قرار ادخال مباني حديثة وعمارات ذات طوابق الى مناقشات وبحوث طويلة وزمناً أطول قبل الموافقة عليها ولكن ليس على أساس هدم اي مبنى قديم وانما في مساحات أخرى، على ان لا تغطي او تحجب المباني الانجليزية بمعمارها المعروف، فعلت هذا باريس ، وكذلك بون، وروما، واثينا، وكذلك في القاهرةوجدة وبيروت والرباط وبغداد قبل الحرب، أما في نيودلهي وكراتشي واسلام اباد فتمسكت بالمعمار والأحياء التي شيدها الانجليز أبان حكمهم للهند وللباكستان وكذلك الحال في كينيا وغانا ولاغوس إلاَّ قليلاً. وكانت العاصمة السودانية (الخرطوم) تمتلك حتى عام 1990م مباني ومعماراً مميزاً في الأسواق، وفي الدور الحكومية وبعضها مباني ذات رمزية او أسواق لها تاريخ، مثل (سوق الخضار واللحوم والفواكه) في وسط الخرطوم وكان متعة للمشترين والمستهلكين وللسياح على حد سواء، وحديقة للحيوان التي شيد في مكانها برج الفاتح، وكانت حديقة الحيوانات تمثل متعة وفوائد جمة للأسرة السودانية ولتلاميذ المدارس وللسياح القادمين من أقاصي الدنيا، وأخذت الآلية الهندسية لولاية الخرطوم تقتلع التاريخ من أعماق الأرض وتزيل دون هوادة مباني لها تاريخ ورمزية تعكس حضارة هذا الوطن فحولت مباني وزارة المعارف التي شيدت في مطلع العام 1900 الى مباني حديثة وهي جميلة وانيقة، ولكنها تساوي صفراً كبيراً وخسارة فادحة لأنه ازالة لمعلم حضاري وتاريخي. واستعراض المعالم التي اقتلعت او محيت وقامت فوقها مباني او عمارات حديثة موجع ومؤلم، وآخر مبنى الغرفة التجارية التي شيدت عام 1904م وكان أول رئيس لها كونتو ميخالوس، لقد أزيل تماماً وتحول الى حفرة في اشارة لقيام عمارة او مبنى حديث فوقها، ولا احد يعترض على التخطيط والتحديث والتجديد ولكن بفهم ووعي وحس وطني وتاريخي، فقد كان بالمقدور الحفاظ على هذا التراث والمعالم التاريخية والتوسع في المعمار الحديث في مساحات وميادين على امتداد حدود العاصمة الكبيرة، وأن يقترن ذلك بخريطة تجمع بين القديم التليد وبين الحديث المتقدم. ان القيادة الجديدة في ولاية الخرطوم أظهرت جديتها من خلال أحاديثها ومن قرارات صدرت منها، ولذلك ألجأ اليها لوقف ازالة أي مباني او معالم ذات تاريخ والحفاظ على الملامح والمواقع المحفوظة في الذاكرة السودانية، وأذكر بأهمية الحدائق، والخضرة فلا يوجد أي أثر أخضر في قلب الخرطوم سوى شاطئ النيل، والانتقال بالمباني الجديدة الى ضواحي الخرطوم حيث توجد مساحات وميادين كبيرة وواسعة تحتاج الى تعمير وخضرة وجهد معاً.