كثيرون لم يدققوا أو لم يريدوا التدقيق فى حقيقة تاريخيّة, هى أنّ ثورة ثلاثة وعشرين يوليو المصريّة فى مضابط التاريخ هى حركة عسكريّة استهدفت أوّلاً إزاحة الملك فاروق ملك مصر والسودان... لذلك فقد كانت هذه الثورة بحقائق ذلك الزمان سَعياً لتحويل مملكة مصر والسودان إلى جمهوريّة مصر والسودان! السودان الذى نال استقلاله من الانجليز وحق تقرير مصيره عن مصر يبحث حتى اليوم عن أمنه من اتجاهات ثلاثة ما عدا الإتجاه الشمالى ... ومصر تعانى حتى اليوم إختراقات أمنيّة من إتجاهاتٍ ثلاثة ما عدا الإتجاه الجنوبى! الطور الحسّاس الذى يمر به السودان الآن يجبرنا لإعمال خيالنا السياسى لتأمّل حال السودان لو لم يتخلّ التيّار الاتحادى عن مبدأ الإتحاد مع مصر... ولو أنّ مصر الجمهوريّة تخلت عن النظرة الخديويّة للسودان, فوقف كلاهما على تجربة دولة جديدة لا هى واحدة ولا متحدّة ولا إتحاديّة, بل نموذج كونفيدرالى (دولة بنظامين) أو دولتا مجلس تعاون يتعاونان كما يتعاون القلب والرئة فى جسم الإنسان... فى أىّ اتجاه كانت ستسير مشكلات مصر وإختناقها الديموغرافى والاقتصادى والمعيشى... وفى أى إتجاه كانت ستسير مشكلات السودان الأمنيّة والدبلوماسيّة والسياسيّة! ملأتنى الدهشة حين طلبت وزارة الخارجيّة المصريّة تفسيراً لإفاداتٍ قالها وزير الخارجية السودانى على كرتى ضمن محاضرة عامة: مصر لا تضطلع بدورها الاستراتيجى إزاء السودان... فوزير الخارجية السودانى كان يقصد انّ على مصر أن تنخرط فى الأجندة السودانيّة بشرعيّة تملكها بالجغرافيا والتاريخ ولا يملكها أغلب الذين يخوضون الآن فى شئون السودان! كثيرٌ من السياسيين المصريين الذين يديرون الأجندة المصريّة لا يقدّرون الحجم الإستراتيجى للسودان فى مصر اللامركزيّة القادمة, مثلما أنّ كثيرين من السياسيّين السودانيّين الذين يديرون الأجندة السودانيّة لا يقدّرون دور مصر الممكن فى إستقرار وبناء الدولة السودانيّة المُسْتجدّة... وأنّ ضعف التقدير هنا وهناك هو سبب بقاء مصر حبيسة فى عُنُُق الزجاجة, وبقاء السودان رهينة فى قاع الزجاجة! أفرد لنفسى بعض الوقت لتأمّل الزجاجة... أنظر لعُنُقها تارة ولقاعها تارةً أخرى, لأرى فداحة الأمن الزُجَاجِى!!