التصريحات الصحافية غير قطعية الدلالة، من مطلوبات العمل الدبلوماسي ويعتبرها الدبلوماسيون بمنزلة (عدة الشغل)، فهم عادة يميلون الى العبارات الظنية التي تشير الى الشيء ولا تسميه باسمه، وتجعل مساحات التفسير واسعة خاصة في الموضوعات الشائكة والمعقدة والحساسة. وزير الخارجية دينق ألور الذي يجلس على قمة الهرم الدبلوماسي نجح عمليا في تحريك جزئي لساكن العلاقات السودانية الامريكية في اول زيارة له الى واشنطن، تبعها بالاثر زيارة مماثلة من مبعوث الرئيس الامريكي للخرطوم، وربما كان هذا ما حفز ألور للاعلان عن جدول زمني لتطبيع العلاقات بين السودان والولاياتالمتحدةالامريكية بعد اكثر من عشر سنوات من العقوبات، إلا ان الخارجية الامريكية لم تتأخر في الرد على دينق ألور فقد نفت بصراحة فجة وجود أي جدول زمني لتطبيع العلاقات مع السودان، وقالت ان ذلك مرهون بحل مشكلة دارفور والاسراع في نشر قوة حفظ السلام المختلطة بين الاممالمتحدة والاتحاد الافريقي..مما اضطر دينق ألور لاحقا الى توجيه مسار تصريحه الى الداخل بالحديث عن ان السودان شكل لجاناً فنية وحدد جدولاً زمنياً لستة اشهر لحل كل الخلافات العالقة بين البلدين. في قضية الدبلوماسي حسني مصطفى يكاد السيناريو يتكرر،فالاهتمام البالغ لدينق ألور بالقضية وقيامه بزيارة جوبا لتلمس حقيقة اختفاء الدبلوماسي، ضاع في ثنايا حديث الوزير عن ان حسني يواجه تهما ذات طبيعة جنائية سيقدم بموجبها الى المحاكمة، واعلن الوزير عن الاتجاه لارسال عدد من افراد اسرة حسني الى جوبا للاطمئنان عليه..وفي ذات اليوم التي وجدت تصريحات دينق ألور طريقها الى الرأي العام كان حسني قد حضر الى الخرطوم يتقاسم الابتسامات والدموع مع اهله واصدقائه، ولولا استدراكات ياسر عرمان لكان صعبا الجمع بين تصريحات دينق الور والمشهد الذي رسمه حسني بحضوره عظما ولحما الى اهله بدلا ان يتكبدوا مشاق السفر الى جوبا.. لقد اسرع بألور عمله في المهمتين (واشنطن، وجوبا)، ولكن ابطأت به تصريحاته. الكرسي المميز في المكان الخطأ من بين سائر قادة حركات دارفور يتميز عبدالواحد محمد نور بأنه يعول على العمل السياسي اكثر من العمل العسكري، ربما يكون ذلك بعد ان ألقى نظرة واقعية للاوضاع، فقد تناثر عقد القادة الميدانيين وتكاثرت الحركات بصورة عضوية ولا عضوية، ولم يعد شعار (التحرير) حقا حصريا لحركة دون اخرى،وليس هناك مسجل ملكية فكرية يلجأ اليه عبدالواحد شاكيا من انتهاك حقه الادبي في الاحتفاظ بمسمى حركة تحرير السودان، فهناك بضع عشرة حركات تحمل هذا الاسم..التأثير العسكري لحركة عبدالواحد اصبح ضعيفا كذلك، من واقع عدم امتلاكه وحركته لقاعدة انطلاق خلفية تكون بمنزلة الحبل السري للامداد والتشوين والدعم اللوجستي، فليس لعبدالواحد علاقات بدول الجوار الغربي تتيح له تجهيز قواته وتسليحها ومدها بأسباب الفاعلية والقوة. ومن بين سائر قادة الحركات يعلي عبدالواحد من نبرة ال(انا) في مقابل (هم)، و(هم) هذه يدخل فيها دخولا اولياء الحكومة التي يعلن عبدالواحد موقفا معاديا صريحا منها، وتتضمن(هم) قادة الحركات المسلحة الرافضة لأبوجا الذين ينظر الي(هم) عبدالواحد كمعارضين ليس لدي(هم) أي افق سياسي، فليس هناك ما يجعل(هم) اندادا له يجلسون معه كتفا لكتف في اروشا او سرت او جوبا،ويدخل في(هم) غالب دول الجوار المؤثرة في دارفور. عبدالواحد وحده هو الذي استطاع ان يشوّش العام الماضي على الخرطوم بعملية تخريبة وإن كانت محدودة الفعل وتم احتواؤها، ولكنها كانت محاولة للتأكيد على انه زعيم سياسي له اتباع يطيعونه حتى في المركز، وهو بالتالي لا يشبه قادة الحركات الآخرين. حتى في علاقاته وارتباطاته الخارجية استطاع عبدالواحد ان ينسج تحالفات تبدو بعيدة شيئا ما عن قضية دارفور، فعندما ساءت علاقته بالجماهيرية وتشاد وهما الجارتان المتاخمتان لدارفور من الناحية الغربية ويعتمد عليهما قادة الحركات المسلحة بصورة اساسية، استطاع عبدالواحد ان يجد لنفسه البديل في دولة اريتريا،فأقام فيها رافضا لابوجا غير آبه بالولاياتالمتحدةوالامموالمتحدة والاتحادين الاوربي والافريقي الذين انصرف ممثلوهم من العاصمة النيجيرية وهم شهود على ان عبدالواحد ميّز نفسه (بالرفض) على غريمه مني اركو مناوي، ولم يهتم المراقبون كثيرا لرفض د.خليل ابراهيم رئيس حركة العدل والمساواة لأن عبدالواحد كان احد اثنين اطلقا الشرارة وفجرا قضية دارفور، وليس لخليل هذه المزية. حتى عندما ضاق فضاء اريتريا عليه فإن عبدالواحد اختار فرنسا بذكاء، فباريس ومنذ تنصيب ساركوزي رئيسا بدأت تتخذ مواقف متشددة تجاه الخرطوم على خلفية مشكلة دارفور، فأدرك عبدالواحد انه اذا استقر هناك فلن يكون ضيفا ثقيلا على فرنسا. من واقع هذه السلسلة من المواقف تبدو خطوة عبدالواحد نحو اسرائيل امرا يتسق منطقيا مع ابحاره المستمر عكس التيار، وتفضيله الحضور الاعلامي والسياسي الدائم بالجلوس على الكرسي المميز حتى ولو في المكان الخطأ. معضلة تفسير الجغرافيا على يد حزب العدالة والتنمية ذي الميول الاسلامية تريد الحكومة التركية اعادة كتابة وتفسير بعض الاحاديث النبوية الشريفة، ولا تخلو هذه الخطوة الدينية من دلالات سياسية تريد بها حكومة رجب طيب اردوغان ان تقترب اكثر من الاتحاد الاوربي الذي ربما ازال عنه انضمام دولة كوسوفو الحديثة صفة النادي المسيحي. مشروع الحكومة التركية عمره ثلاث سنوات وعكف على اعداده خمسة وثلاثون من المتخصصين في العلوم الاسلامية ويتوقع ان يفرغوا منه هذا العام، ولا تبدو السياسة غائبة عن اذهان الذين يريدون اعادة تفسير وتدوين الاحاديث النبوية، فالمقصود تقديم الاسلام في نسخة تركية منقحة وجديدة ربما جعلت حظوظ تركيا في الانضمام الى الاتحاد الاوربي متوافرة بصورة اكبر. النصوص المستهدفة هي التي تمس وضعية المرأة او التي تتعلق بالجهاد، وقد وصف خبير بريطاني المشروع التركي بأنه(تحويل الاسلام من دين يجب طاعة تعاليمه الى دين مصمم لتلبية حاجيات الناس في ديموقراطية علمانية،) ودعا الرجل الى النظر الى النصوص المراد اعادة تفسيرها ككيان واحد، (فلا يمكنك مثلا القول ان الاحاديث الداعية الى القتال ينبغي ان تنسخ تلك التي تدعو الى السلام، وذلك بالضبط ما يفعله بعض الناس في الشرق الاوسط). كان حديث احد العلماء القائمين على المشروع التركي لاذاعة البي بي سي العربية يثير الشفقة وهو يشرح المشروع باللغة التركية وليست العربية، وهو ما اعطي انطباعا فوريا على ان النصوص النبوية المراد اعادة تفسيرها او كتابتها سيتم اعتسافها دون شك لصالح المفهوم الاوربي. تركيا ليست وحدها التي تريد ان تضع اطارا حداثيا لاسلامها ولكن هناك محاولات اخرى في منطقة الخليج تضطلع بها الولاياتالمتحدةالامريكية لانتاج الاسلام المدني الديمقراطي،ويكون لدول الخليج بفعله التزام قوي ومحدد بالقيم الاميركية الاساسية..ولكن المفارقة في المشروع التركي هو ان انقرة اقدمت تحت حكم حزب العدالة والتنمية(الاسلامي) على القيام بما لم تقم به الاحزاب العلمانية والقومية المتشددة في تركيا من اجل تماهي المعتقدات والتقاليد الإسلامية مع الأساليب والمبادئ الفلسفية والفكرية الأوروبية. ولكن اذا نجحت انقرة في اعادة تفسير التاريخ فكيف تستطيع ان تفسر الجغرافيا؟، كيف يمكن ان تبرر وجودها في قارة اوربا لولا الفتوحات التي قام بها المسلمون لتركيا تحت نصوص (جهادية) (سواء اكان جهاد دفع ام جهاد طلب) وهي ذات النصوص التي تعكف الحكومة التركية على إعادة تكييفها او تفسيرها؟. بدون تعليق زار الامام الصادق المهدي رئيس حزب الامة ولاية الجزيرة الاسبوع الماضي ونقلت عنه الصحف الآتي: «وصف السيد الصادق المهدي رئيس حزب الامة المرحلة الحالية من عمر العلاقة بين حزبه والانقاذ بأنها مرحلة نضال مشترك». وقال في لقاء جماهيري بمناطق ام عضام وطابت وتنوب بولاية الجزيرة ان حل مشاكل السودان يحتاج الى مباصرة، ونحن نباصر الان مع المؤتمر الوطني بعد ان وافق الاخير على حل بالتراضي". في ذات التوقيت كان هناك اعلان صحفي صغير يقول «منطقة الحلاويين بقبائلها المختلفة وإرثها التاريخي رواد الجهاد انصار الامام المهدي يعلنون ولاءهم للمؤتمر الوطني..المكان:المركز العام للمؤتمر الوطني.. الزمان الاربعاء الخامس من مارس 2008م».