من رأي الدكتور حيدر إبراهيم (سودنايل 11-11-07 ) أن محاولة محمد علي باشا لتحديث مصر قد أخفقت لأنها آمنت ببعض حداثة الغرب من مثل الأخذ بتقنيات الحرب وغيرها وكفرت ببعضها الآخر مثل مبدأ المواطنة أو الديمقراطية. فقضت حداثة محمد علي نحبها لأنها لم تؤمن بكل كتاب الغرب الحضاري. ويقع رأي حيدر هذا في إطار نظرية ترى أن تعثرنا في الأخذ بأسباب الحداثة هو عيب ثقافي فينا وذنبنا على جنبنا. وددت لو أن حيدر ذا العهد المسئول في التنوير أطلع القاريء على تعليل منافس لرأيه يقول إن فشل المشروع التحديثي هو ما جناه الغرب علينا وما جنينا على أحد. وهذا ما انتهي إليه العلامة مارشال هودجسن الذي سبقه في النظر إلى تهافت مشروع محمد علي التحديثي. وهودجسون صاحب واحد من أميز الكتب عن إرث الإسلام وأحفاها به وهو «مخاطرة الإسلام» الذي صدر في أجزاء ثلاثة في السبعينات. ولم يمتد بهودجسن العمر ومات في ريعانه الأكاديمي. فربي تقبل عمله هذا عن دينك وأمتك قبولاً حسناً. وقد جاء هودجسن بآرائه موضوع النظر في كتاب عنوانه «التفكير مجدداً في التاريخ العالمي» صدر في 1993 وضم مقالات له نثيرة في المجلات توافر على جمعها وتقديمها حبيب له ومهتد به. وخلص هودجسن في مقالة من الكتاب الأخير إلي أن المسلمين لم يكونوا بالغي الحداثة حتى بشق الأنفس. فهو يرى أن الحداثة لن تقع للمسلمين طالما افترضت الحداثة الأوربية انقسام العالم بين مركز منيع الجانب وتخوم هي بصورة وأخرى مستعمرة اقتصادياً. وعزز هودجسون رأيه بنظر تاريخي كثيف لمحاولة محمد علي باشا الحداثية. وعسير عليّ الإتيان به في عجالة الصحيفة اليومية. ولكننا نكتفي بمسألتين من مسائله ومسائل غيره. فأولاهما أن الغرب أفشل نهضة الباشا الصناعية. فقد وصل الباشا اقتصاد بلده بالسوق الأوربي العالمي. ولكن لم يزد هذا الاقتصاد عن كونه تابعاً للغرب ينتج المواد الخام التي تبقى أسعارها تحت رحمة رأس المال الغربي. ولذا اصطدمت نية الباشا تحديث مصر بعزيمة الغرب لإبقائها سوقاً لصادراته. فقد أوعزت بريطانيا للخليفة العثماني بنص معاهدة 1833 بينهما أن يفرض على الباشا، وهو ممن يدينون له بالطاعة، أن يكف عن حماية الصناعة المصرية من المنافسة الخارجية وأن يفتح السوق المصري لمنتجات الغرب. فأذعن الباشا وهجر التصنيع بالمرة. وبالنتيجة جرى إغراق السوق المصري بمنتوجات مصنوعة بالماكينات في الغرب. وقد أدى هذا إلى عطالة الحرفيين، وزعزعة النسيج الاجتماعي المتماسك لحياة هؤلاء الحرفيين في كاراتهم بالمدينة. وعلق الدكتور أنور مجيد (الذي يثير كتابه الجديد عن حق المرء أن يجدف كثيراً من المناقشات هنا) قائلاً إنه هناك من لا يزال يزعم، أمام مثل هذا الشاهد عن تنكر الغرب لحداثات الهامش، أن بالإسلام معايب جوهرية تحول دونه ودون الحداثة. من الجهة الأخرى فاستعمار مصر بواسطة انجلترا في 1882 هو ما أفسد خطى مصر الوئيدة لبناء نظام دستوري ليبرالي في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. فقد قال المؤرخ الإنجليزي ياب أن بعوث الباشا إلى أوربا وخططه للتحديث ولدت مناخاً لليبرالية وحماسة لها في دوائر مدينية شابة. وبرغم ضعف قاعدة الليبرالية من جهة الطبقة والثقافة إلا أنها فتقت نقاشات خرجت منها دعوات للحريات الدستورية والديمقراطية البرلمانية. وانصاع إسماعيل باشا لهذه الدعوات فأنشأ مجلس شورى النواب في 1866. ولم يحل ضيق صلاحيات هذا المجلس وضعف تأثيره على مجرى السياسة دون أن يكون منبراً عبَّر من فوقه أعيان الريف من ذوي الأصل العربي عن ظلاماتهم ضد ملاك الأراضي الوافدين من الأتراك والشركس. ووصف ياب هذا المجلس بأنه كان مجرد عنوان للحضارة لا أداة قوة في يد أولئك الأعيان. وزاد بأن المؤثر الثالث الذي انضاف لمزيج الوطنية المصرية وليبرالية اعيان الريف هو الحداثة الإسلامية التي قام بأمرها الأفغاني ومحمد عبده. وهي حداثة دعت لإصلاح الإسلام ليلقي ابتلاء الحداثة قوياً مجتهداً مبادراً. وقد ألبس الأفغاني وعبده حداثتهما قالباً إسلامياً مجتهداً انجذب له شباب الأزهر ومجه المحافظون. ووجدت هذه الطاقة الوطنية الليبرالية الحداثية منابرها في الصحف، آية الزمان كما وصفوها، التي جاءت إلى مصر في أعقاب نهضة الشام ووفود مثقفيها إلى مصر. وقد كانت مجلة «الطريق» لابن النديم هي لسان حال الوطنية لمصرية إبان هبة عرابي بلا منازع. وقال ياب إن هذه النزعات الوطنية الليبرالية الحداثية هي التي عصف بها استعمار مصر في 1882. جاء هودجسون بأسباب ثقافية وتربوية مثل ثنائية التعليم لفهم لماذا لم قعد الباشا دون النهوض بمصر. ولكن خلاصته القوية أنه لكي ينجح المسلمون في تعاطي الحداثة وجب على الحداثة أن تتلاءم مع حاجيات المسلمين. وسيقتضي هذا عكس واحد من القرارات التاريخية لعصرنا الحديث، بل وأكثرها خطراً: إذ سيقتضي هذا تغيير علاقة من علائق الشوكة الغربية استضعفت المسلمين استضعافاً مهيناً وبصور مختلفة منذ القرن الخامس عشر.