احكى مشهدا عشته فى مدينة ملكال، عاصمة اعالى النيل وانا صبى ناضج اتلقى تعليمى الاوسط فى مدرسة ملكال الاميرية، كان ذلك المشهد هو استقبالات الشعب الجنوبى فى مدينة ملكال للزعيم اسماعيل الازهرى الذى جاءها زائرا ومهنئا بعيد الاستقلال، احاطت الجماهير الجنوبية بمطار المدينة الصغير من كل جانب وهى تحمل طبولها وحرابها، وتتسربل فى ازيائها الزاهية المزركشة الفاقعة الالوان ، وتعتمر على رؤوسها ريش النعام بألوانه المتعددة المختلفة ، وتغنى اهازيج وطنية بلغاتها المحلية المتعددة ، وتمارس الرقص العنيف المعبر، تأتى من خلاله بألعاب الفروسية من مصارعة للعدو وهزيمته فى اشارة سياسية بليغة الى المستعمر المطرود المهزوم . اضاع صوت الطبول المدوى صوت المتحدث عبر مكبر الصوت الذى اراد أن يعطى الجماهير المحتشدة نبذة قصيرة عن الوفد المرافق له. وفتح باب الطائرة «الفوكرز». وأطل الازهرى فى بدلته البيضاء ، واخذ يلوح بكلتا يديه ، يعقدهما بقوة ، علامة الوحدة والقوة والانتصار . وردت الجماهير الراقصة بالتلويح بحرابها ، تفردها فى جوف السماء ، ثم تنكسها الى الارض فى تعابير رمزية يعرفها الجنوبيون الفرحون ، تترجم فرحة شعب ولد حرا للتو . واندفع الزعيم الازهرى الى وسط الجماهير الجنوبية الهادرة يعانق بعضها ويصافح بعضها الآخر . وصعب على رجال الأمن أن يحولوا بين الازهرى وبين تلك الجماهير الهادرة . وكان اكثر ما ازعجهم هو كثرة الحراب التى حملتها الجماهير الهادرة وهى تلوح بها فى وجه الزائر الكبير . ولكن رجال الأمن المحليين افهموهم رمزية تلك الحركات فخلوا بين الزعيم وجماهيره . وكانت اكثر الصور تعبيرا بعد استقبال المطار هى صورة موكب الزعيم الازهرى وهو يتقدم فى صعوبة بالغة نحو رئاسة المديرية . فقد كانت الجموع الجنوبية الهادرة والمحتشدة على جانبى الطريق تصر على مصافحته يدا بيد او معانقته فى شغف حميم . ولم يكن امام رجال الأمن الا أن يستسلموا للأمر عندما رأوا تجاوب الزعيم مع جماهيره والتبسط معهم الى آخر الحدود .