كنت أزور المواطنة «ص» هذه في مكتبها، فقد درسنا الجامعة سوياً.. وكانت بالنسبة لنا نموذجاً لتمرد لطيف.. وحين دخلت العمل العام حملت معها مبادئها.. وكانت تعمل في مؤسسة تقبل الرشاوى ولا يصمد أمامها إلا قوي.. وكانت هي نموذجاً لتلك القوة.. وعلى الرغم من انها متزوجة وتعول أسرة وزوجها تقاعد وأقعده المرض الا اننى كثيراً ما زرتها ووجدتها تشكو في حسرة على المدير الذى هي نائبته.. وكانت تحدثني عن الأمانة وضرورتها والضمير الذى يجب ان يكون يقظاً.. وكانت لها عبارة حفظتها منها هي «نظافة اليد» كثيراً ما تقولها وقالت ان عيب المدير في كونه ضعيفاً يقبل الهدايا التى تصل الى «الرشوة».. كنت معجباً بها وعبرها أرى ان الدنيا بخير.. وانها امرأة «نظيفة اليد». في الاسبوع الفائت هفت نفسي اليها.. قلت أزورها لاتمتع بمؤانسة انسانة صاحية الضمير نظيفة اليد.. وجدت بعض الصعوبة في مقابلتها.. عرفت انها حلت محل المدير فأصبحت هي المسؤولة الأولى.. قدرت انها مشغولة فقلت اختصر الزيارة.. سألتها عن المدير السابق.. المرتشي الذى يحب المنافقة.. هالني رأيها الجديد فقالت لي: كنت أظلمه.. كان محقاً فيما يفعل.. الحياة ضغوط فلا ينبغى ان «تقتلنا الأمانة».. والواحد «ما يعمل فيها ليمونة في بلد قرفانة».. اندهشت للتغيير الجذري هذا.. قلت لها يعني فلسفة نظافة اليد سقطت قالت تبرر: هي منظومة اصبحت عرفاً.. ولا تؤثر على مانح الهدية، لاحظت انها اصبحت تركز على كلمة «هدية» أو «معاملة» أو «عطف بطريق غير مباشر» وغلفت الأمر بأنه يتم بالتراضي وفي حدود المنطقي.. خرجت من مكتبها بعد ان احاط بها بضع من مرؤوسيها ينافقونها في سفور واضح وقلت لنفسى: ها هو رفيق من الرفاق قد سقط في شراك مؤسسة الفساد المشروع الذى يتيحه بريق الكرسى وتيمزه. لم يحزنني ان «ص» اخطأت فكلنا نخطىء.. ولكن احزنتني تبريراتها.. وسوق الاعذار لموقفها والمبررات التى جعلتها تخطىء مرغمة مضطرة.. والمضطر طبعاً يركب الصعب.. ولكنها لا تسميه صعباً هي تعتبره أمراً عادياً. صديقتي التي كانت تكره النفاق اصبحت تقبله بصفته ضرباً من المجاملات الاجتماعية بل والضرورية.. والرشوة بسطتها الى معاملة عادية طالما الراشي يقبلها ولا تؤثر عليه.. على غرار «زول ح يكسب ملايين يعني شنو لو أداني ملاليم منها؟!». لا أريد ان اجلد صديقتي فقد عرفت ان ظروفها ساءت كثيراً.. زادت مصاريف الأبناء.. وزاد الصرف على علاج الزوج ومرضه مكلف والغلاء اجتاح الأسواق.. ما هذا؟ ما بالى اخذت اسوق التبريرات لها! هل هذا يعني اننى اوافقها؟ هل يعني هذا اننى على البر لذلك «فأنا عوام».. بصراحة متناهية.. ما كرهت «ص» ابداً وما عذرتها ولكنني اعتبرت تصرفها هذا «بصقة في صندوق قمامة». بيد اننى عموماً حزين فقد تمنيت ان يظل النموذج النقي نقياً.. هل صدق احسان عبدالقدوس حين قال: أسألوا الظروف ولا تسألوا الناس!