بينما كان الصراع بين المتفاوضين في إديس يحتدم ويضطرم ويصطدم بعقبات كؤود لا يجاوزها حتي من كان نحيلاً أشعثَ، كان الدولار يتسلل خلف خطوط العملة الوطنية ويقطع عليها الطريق. اذا صعد الدولار وارتفع تداعت له سائر السلع بالسهر والحمى. في حسابات القوى المتصارعة ان مشكلة السودان وأزمته سياسية بالدرجة الاولى .. بينما المشكلة اقتصادية بالدرجة الاولى .. في كل بلاد الدنيا تمشي السياسة خلف الاقتصاد الذي بيده العصمة .. وفي بلادنا وضعت اطراف الصراع العصمة في يد السياسة وطلبت من الاقتصاد أن يمشي خلفها .. هنا مكمن الداء .. سقف الطموح عند غالب اهل السودان هو لقمة عيش كريمة من غالب قوت اهل البلد .. ثم ليحكم من يحكم .. إذا توفرت للشعب متطلبات العيش الكريم في حدها الإدنى فإن السواد الأعظم من رعاة الابل من أهل السودان غير معنيين بقسم السلطة والثروة .. كانت مفاوضات أديس الاخيرة تتعثر أثناء سيرها بمطالبة التمرد بدخول الإغاثة عبر نقاط بعينها داخل حدود بعض دول الجوار .. والحكومة تعلن رفضها دخول اية إغاثة للبلاد دون علمها وسيطرتها .. الامر بالنسبة للحكومة يتعلق بالسيادة الوطنية .. ثم تتعثر المفاوضات بمطالبة التمرد بإعادة هيكلة الجيش والقوات الاخرى .. والحكومة تعلن أن الجيش خط أحمر .. المفاوضات تتعثر وتتعثر وتسقط : والتمرد يقف ويستوقف ويبكي ويستبكي عند دخول الإغاثة عبر نقاط في دول الجوار من وراء ظهر الحكومة ويأبى أن يتزحزح قيد انملة .. ويصر على فك وتركيب القوات المسحلة ..! والحكومة ترفض بوجهٍ صارم القسمات حي الشعور .. الحكومة تعلم أن ما يدخله التمرد عبر الحدود من وراء ظهرها لن يكون غير إغاثة (مسلحة) ..! والشعب من خلف النوافذ المغلقة يستمع ويتابع مجريات الحوار ويجد أن الحوار يحلق بعيداً عن قضايا جوهرية .. قضايا الإصلاح الاقتصادي المستعصية .. الحوار يدور بعيداً عما يطلبه المستمعون .. والدولار يرتقي ويرتقي ويرتقي .. فيما كان الحوار يدور ويحتدم حول دارفور والمنطقتين .. كانت الضائقة الاقتصادية وما صاحبها من ضروب المعاناة يدفع بسكان دارفور والمنطقتين للهجرة الى الخرطوم .. ترك الناس دارفور وتركوا المنطقتين للحكومة والتمرد أسدان في الهيجاء يصطرعان وهاجروا جميعاً الى الخرطوم عسى ولعل ليجدوا أن الناس في بقية المناطق والأقاليم سبقوهم الى هناك فتلاقت قممٌ يا مرحي .. هاجر كل اهل السودان واكتظوا في عاصمة البلاد وضربوا حولها طوقاً بعد طوق حتي ضاقت عنهم الولاية بما رحبت .. والتمرد ممسك ومستمسك بدخول الإغاثة من أصوصا .. والحكومة ممسكة ومستمسكة بالسيادة الوطنية .. والشعب ممسك بالصبر الجميل .. التمرد ممسك ويجر ويجر .. والحكومة ممسكة وتجر وتجر. والأزمة تطول وتطول .. والشعب يصيح ويصيح .. بالطبع فإن المعارضة بمختلف مسمياتها وعلى اختلاف مذاهبها النضالية تزعم انها لا تسعى للوصول الى السلطة .. وانما تسعى لتحقيق الحد الإدنى من مطلبات العيش الكريم لهذا الشعب المسكين .. والحكومة ايضاً تسعى لذات العيش الكريم .. والمعارضة تعتريها أحياناً (نوبات) من صدق مشوب بالتوتر والحذر فتغلف سعيها للسلطة بنبل الهدف وسلامة المقاصد فتعلن ان سعيها للسلطة وإن لم يكن لله فهو لا للسلطة ولا للجاه وإنما لأجل تحقيق الحد الإدنى من متطلبات العيش الكريم للشعب الكادح والواعي الصبور .. بالطبع فإن المعارضة لا تريد حد ادنى من العيش الكريم لنفسها الأبية .. المعارضة استطاعت ان توفر لنفسها عيش الرفاهية، ولكنها ولأنها تحب لأخيها الشعب ما تحب لنفسها فهي تريد ان تأخذه من وهدة خط الفقر الى خط الزيرو لاين .. هذه هي المعارضة وهذا هو زعمها .. والمعارضة في سبيل الهدف النبيل تعلن الجهاد المدني والعصيان المدني والانتفاضة السلمية والانتفاضة المحمية بالسلاح وتصل الى حمل السلاح ولا سقف لأدوات نضالها على ما فيه من التنوع الثقافي المسلح والذي اخذ السودان الى ساحات مجلس الأمن .. ولاتزال المعارضة ممسكة بعنان فرسها تخوض لجج الأحداث والوقائع وتزكي أوار الحرب وتحتفظ بنارها وأوارها وتؤكد انها تريد إسقاط النظام لتقيم على انقاضه دولة السودان الجديد ومدينة فاضلة لا يجوع الشعب فيها ولا يعري ويظمأ ولا يضحى .. هنا على الحكومة أن تتخذ موقفاً مختلفاً عن موقف المعارضة .. على الحكومة ان تدرك وتنتبه الى طبيعة المشكلة والحضور القوى للبعد الاقتصادي فيها .. فالمواطن صبر وصابر على هذا الضائقة بأكثر مما يحتمل .. التغافل عن البعد الاقتصادي يحدث تصدعات وتشققات خطيرة في جسم المجتمع ويهدد وحدته وتماسكة .. معالجة القضية من منظور سياسي بمعزل عن البعد الاقتصادي يفضي الى حلول فوقية وصفقات ترضي المتصارعين وحدهم وتدع الشعب في الصقيعة .. وتضعه في موضع اليتيم في موائد اللئام ..