في لندن عاصمة الضباب اغمضت البرلمانية فاطمة أحمد إبراهيم قبل أيام عينيها للأبد، وفاضت روحها إلى بارئها لتبدأ فصول مأساوية ألفها محسوبون على الحزب الشيوعي في ساعات وصول الجثمان وتشييعه لمقابر البكري. تابع الشعب السوداني تفاصيل مؤسفة فعل فيها بعض «الكوادر» الأفاعيل وحاولوا استغلال الحدث لترديد شعارات أكل عليها الدهر وشرب ظناً منهم أن ما يفعلونه موقف يحسب لنضالهم المزعوم ضد الحكومة. الشيوعيون يجتهدون لترميم التشققات عبر المصادمة وتصعيد معارضتهم للحكومة حتى يدعموا وجودهم في الساحة السياسية، ووسط أحزاب التجمع الديمقراطي، إلى جانب تبييض وجههم أمام قواعدهم التي تسربت من بين أيديهم بعد انكماش دور الحزب الجماهيري، وضعف نشاطه في الشارع، وفشله في الوصول لشرائح المجتمع بمختلف مكوناته. جاءوا ليصعدوا على حساب سمعة امرأة تخلوا عنها في أصعب سنوات عمرها، ولن استرسل في هذه الجزئية، بل أحيلكم لمقال الأستاذ عبد المحمود نور الدائم الكرنكي المنشور في عدد اليوم بالصفحة الأخيرة، ويحتوي على كلمات لصلاح البندر تتحدث عن «الغرفة رقم خمسة» وما أدراك ما «الغرفة رقم خمسة». سعى الشيوعيون في الآونة الأخيرة إلى استنباط أدوات عصرية، فحاولوا السيطرة على وسائط التواصل الاجتماعي ببرامج وتكتيكات إستراتيجية، لكنهم أخفقوا في ذلك بعد أن دهمهم وعي الجماهير. يتخفى الحزب ويتلون كالحرباء في أكثر من صورة ووجه، فتارة هو حركة جديدة وتارة أخرى تنظيم تقدمي يحاول استقطاب طلاب الجامعات عبر شعارات التحرر والتشبه بالغربيين، ومن أجل ذلك ينظم الرحلات ويقيم الحفلات الغنائية والدورات الرياضية في الأحياء لكسب ود المواطنين. اختار الحزب الشيوعي منذ سنوات بعيدة العمل في الخفاء وتحت الأرض تماماً كالأفاعي التي تقبع في أوكارها بعيداً عن الأعين وسط الحشائش والحفر والشقوق، تنتظر الوقت المناسب للانقضاض على فريستها. السم الزعاف الذي يحاول أن ينفثه الشيوعيون في شرايين الاستقرار والسلام، تمت محاصرته بترياق شافٍ، وابتعدت عن خطره ولدغاته شرائح المجتمع بعد اكتشافهم خطل سياساتهم وأطروحاتهم المدمرة. حاول الشيوعي في الفترة الماضية التخلص من العمل السري بإعادة النظر في هياكله التنظيمية وتنظيفها حتى لا يتم اختراقهم، وانخرط الحزب في تحالف قوى الإجماع الوطني قبل أن تتباعد الرؤى بسبب الخلافات العاصفة التي ضربت جنبات التحالف، فهامت الجبهة الثورية على وجهها وتاهت الخطى في شوارع العواصم الأجنبية. قادت خطوة تغيير سياسات الحزب وتخليه عن التخفي إلى دوامة من الانشقاقات، فظهر التيار الجديد الذي ينادي بالإصلاح بقيادة الشفيع خضر، ودخل في معركة شرسة مع الحرس القديم الذي سعى بكل ما أوتي من قوة لإبعاده، وقطعوا الطريق أمامه حتى لا يصبح السكرتير السياسي بعد أن استقطب مجموعة من الشباب، وزادت كتلته بصورة حركت الرمال تحت أقدام المجموعة المساندة لبقاء القيادات التاريخية. ظهرت اتهامات «الغواصات» لكوادر تحتل مناصب حساسة في الحزب بعد أن تسربت محاضر سرية لصحف الخرطوم، ونشرت أجندة اجتماعات اللجنة المركزية على الملأ، الشيء الذي عمَّق الخلافات التنظيمية، لتبدأ مرحلة الانهيار والتهاوي. هذه الخلافات الجوهرية غير جديدة على الحزب الشيوعي الذي ضربته جرثومة الانقسامات والخلافات الحادة منذ تأسيسه، عندما دعا عوض عبد الرازق إلى تصفية الحزب مطلع الخمسينيات، مروراً بمعاوية إبراهيم في السبعينيات عندما كافح من أجل تذويب الشيوعي في سلطة مايو. أما الخاتم عدلان، فقد قاد صراعاً فكرياً في التسعينيات بدواعي انهيار الاشتراكية وأفول نجمها، وقاد دعوة للتخلي عن الماركسية التي تجاوزها الزمن. أعود لما حدث في الأيام الماضية وأقول إن ما فعله بعض كوادر الحزب ليس بجديد عليهم، بل فعلوه في الماضي القريب عند رحيل أحد القيادات الفكرية للحزب المرحوم (عمر مصطفى المكي) الذي رفضوا نعيه في صحيفتهم الناطقة باسم حزبهم، ثم واقعة ضرب وشتم كادر من كوادرهم المفصولة جاء لحضور مراسم دفن القيادي قاسم أمين دون أن يراعوا لإعاقته وظروفه الصحية. الشيوعي كتب شهادة وفاته بيده عندما أطلقت حناجر كوادره الهتافات في ميدان الربيع، ظناً منهم أن تشييع فاطمة سيتحول لتظاهرة. ولكن ما حدث كان أشبه ب «فجة الموت» التي تتلبس جسد الميت قبل أن يودع أهله الوداع الأخير..