يثور الجدل وتتقاطع الرؤى والآراء هذه الأيام بشأن الوضع الدستوري الخاص بالبلاد عقب إعلان نتيجة استفتاء جنوب السودان، ويتركز الجدل بصفة خاصة على وضع الأجهزة التنفيذية والتشريعية، وما إذا كان المسؤولين الجنوبيين (النائب الأول ونائب رئيس البرلمان والوزراء الجنوبيين) سوف يستمرون في مواقعهم حتى التاسع من يوليو المقبل موعد انتهاء الفترة الانتقالية، أم يغادرون هذه المواقع. الواقع أن من الطبيعي أن يثور هذا الجدل وأن يدور حوار متصل بشأن هذا الوضع الجديد الذي لم تألفه الساحة السياسية السودانية من قبل، وليس هناك بالطبع من موروث دستوري أو سياسي في التراث السياسي السوداني يمكن المقايسة عليه لإقرار وضعية بعينها. كما أن من الطبيعي أن يدور جدل كهذا لأن الأمر مرتبط بشأن دستوري، وفي العادة فإن الشؤون الدستورية في أي بلد وليس السودان فحسب هي دائماً موضع جدل، لأن الدساتير في خاتمة المطاف ليست سوى نصوص وصيغ لغوية شديدة الحاجة – باستمرار – لإيضاحات وتفسيرات. والخلاف غالباً يدور حول التفسير الأمثل، وربما لهذا السبب تلجأ الدول عادة لإنشاء محاكم دستورية تكون إحدى أهم مهامها تفسير النصوص الدستورية أو سكوت الدستور عن مسألة من المسائل. من جانب ثانٍ فإن الدستور الانتقالي لسنة 2005 الساري حالياً هو في جوهره تعبير عن الاتفاق التعاقدي الشهير الذي جرى في نيفاشا العام 2005 بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ومن ثم فهو اتفاق سلام شامل من الطبيعي ألا تحيط نصوصه بدقة تامة بكل ما سوف يستجد، على الرغم من أن البعض يعتقد أن نصوص الاتفاق حفلت بالعديد من التفاصيل وأحياناً تفاصيل التفاصيل. بداية وقبل الدخول في تفاصيل الوضعية الدستورية التي نحن بصددها فإن من الضروري أن نشير إلى أن هذا النقاش الدائر حول هذه الوضعية لا صلة له البتة بإدعاءات عدم الشرعية التي أثارتها بعض قوى المعارضة (في سياق سياسي محض، وليس في سياق قانوني دستوري جاد)، ذلك أن من المفروغ منه أن طرفي اتفاق نيفاشا كانت قد انصرفت ارادتهما إلى ضرورة أن يجري الاستفتاء في ظل حكومتين منتخبتين شمالاً وجنوباً، أي تحت مظلة شرعية هنا وهناك، ولهذا قدموا استحقاق الانتخابات على استحقاق الاستفتاء، ثم أنهما قصدا أيضاً استمرار هذه الشرعية لما بعد الاستفتاء سواء لأربعة أو خمسة أعوام كيفما يكون الحال، حتى تتمكن كل حكومة من ترتيب بيتها من الداخل وحلحلة القضايا العالقة وترميم أي ثغرات سياسية وقانونية واقتصادية وأمنية هنا أو هناك – في إطار من ذات الشرعية – لأن المترتبات الناتجة عن عملية الانفصال مترتبات ضخمة وكبيرة للغاية ربما تمتد أثارها لعقود، وهي تتصل بقضايا إستراتيجية هامة ربما تقع فيها مساومات أو تسويات أو تقدم تنازلات ومن ثم ينبني عليها المستقبل كله. ولحماية هذه الأوضاع – في الدولتين – فإن من المهم أن يكون كل ذلك قد جرى في ظل تفويض شعبي وشرعية انتخابية حتى لا يأتي نظام حكم في وقت لاحق هنا أو هناك وينقض هذه المترتبات أو أن يطعن فيها بعدم الشرعية. أما فيما يلي قضية الوضعية الدستورية فقد تبين الآن أن هناك ما هو متفق عليه بين خبراء القانون والساسة والمحللين، وهناك أيضاً ما هو مختلف عليه. ولعل مما هو متفق عليه أن الرئيس باقٍ في منصبه وفاءً لنص المادة (57) من الدستور الانتقالي لسنة 2005م والتي تنص على أن ولاية رئيس الجمهورية تمتد ل(5) سنوات من تاريخ أدائه لليمين الدستورية، وغني عن القول أن الرئيس لم يكمل حتى الآن سوى أشهر لم تصل حتى لمدة عام واحد، كما أن من المهم جداً الإشارة هنا إلى أن رئيس الجمهورية الآن من الشمال، وكان الأمر يختلف لو كان من الجنوب – ساعة ظهور نتيجة الاستفتاء وترجيح الانفصال – بحيث يتطلب الأمر تقديمه لاستقالته على الفور ليحل محله رئيس للجمهورية من الشمال. وفي اعتقادنا أن لهذا النص يمكن أن نفهم منه بمفهوم المخالفة، أن النائب الأول للرئيس إذا كان من الجنوب فإنه – بذات المفهوم – يتعين أن يقدم استقالته أو يصدر رئيس الجمهورية مرسوماً باعفائه من منصبه، وذلك لأن الدستور الانتقالي لسنة 2005 يعتمد النظام الرئاسي في طبيعة الحكم والنظام الرئاسي كما هو معروف قائم على سلطة رئيس الجمهورية المنصوص عليها في المواد (51-57) شاملة من الدستور، وتتعلق بإدارة الجهاز التنفيذي وتعيين شاغلي المناصب الدستورية من وزراء ومستشارين وقضاة، ويتيح هذا الوضع للنائب الأول للرئيس أن ينوب عن الرئيس في سلطاته واختصاصاته كما لو أنه هو الرئيس، وبالتالي فإن بقاء النائب الأول للرئيس – في ظل رئاسته لحكومة الجنوب التي باتت حكومة دولة أجنبية – هو بقاء غير دستوري لأنه بمثابة جمع بين مصلحتين متعارضتين حيث لا يتصور أن يجمع شخص بين تمثيلين دستوريين لبلدين مختلفين، فالمصالح هنا متعارضة. وربما اتفق الكثيرون حول هذه النقطة لأن من الطبيعي ألا يحدث هذا التعارض، ولكن الخلاف يدور حول ما إذا كان من الضروري أن يتم فك هذا الارتباط على الفور أي عقب ظهور النتيجة مباشرة، أم أن بالإمكان الانتظار حتى التاسع من يوليو. ويورد أصحاب الرأي القائل بأن الصحيح هو الانتظار حتى التاسع من يوليو حجة وجيهة في ظاهرها، ولكنها ليست منطقة ولا عملية وهي أن الدستور الانتقالي لسنة 2005 لم ينص على استمرار الفترة الانتقالية حتى التاسع من يوليو عبثاً، فهو – بحسب رأي هؤلاء – وضع في الاعتبار هذه الفرضية ومن ثم لم ير غضاضة بشأنها. غير أن هذا الرأي يصعب قبوله لأن الدستور لا يمكن أن يكون قد قصد خلق تعارض في المصالح بين الشطرين – وهما قد أصبحا دولتين جارتين – إلى درجة تولي المسؤولين لهذه المواقع المزدوجة، إذ ربما يكون أقصى ما أراده الدستور الانتقالي هو أن تجري في ما تبقى من هذه الفترة الانتقالية مناقشة كافة القضايا العالقة وتسويتها واتاحة الفرصة لكل حكومة من الحكومتين لتدبير أمورها ومعالجة ما طرأ من أحوال بأحكام ونصوص فترة الانتقال وبالاستناد عليها. ومن المهم هنا أن نتساءل حول كيف يظل النائب الأول في منصبه حتى التاسع من يوليو، وقد يتطلب الأمر في هذه الفترة أن يترأس جلسة لمجلس الوزراء مثلاً بسبب غياب الرئيس، أو لأي عذر من الأعذار.. وكيف سيكون الحال إذا تطلب الأمر إصدار قرار لصالح الشمال في مواجهة الجنوب؟ بل كيف سيتشاور رئيس الجمهورية مع نائبه الأول – بحسب ما تقضي قواعد الدستور – في شأن من الشؤون يتصل بعلاقة الشمال والجنوب تتعارض فيه المصلحتان. وأخيراً – وهذه نقطة لا تخلو من حساسية – فإن من المفروغ منه أن الجنسية السودانية فيما يتعلق بمواطني الجنوب تسقط حال ثبوت الانفصال عقب إعلان النتيجة، بصرف النظر عن التدابير التي تتخذ لمعالجة أوضاعهم، فكيف يشغل منصب بهذا الحجم شخص فقد جنسية الدولة؟. ذات هذه التساؤلات – رغم أنها قد تبدو نظرية – تثور بشأن بقية مسؤولي الجنوب في الأجهزة الاتحادية، إذ سوف يكون الوضع نشاذاّ للغاية وقد يخلق تعقيدات عديدة لم يكن أصلاً لها من داعٍ لها. وعلى ذلك يمكن القول إن إجراءات ترتيب الأوضاع الدستورية ينبغي أن تبدأ فور ظهور النتيجة، إذ ليس مؤدى امتداد الفترة الانتقالية حتى التاسع من يوليو المقبل، أن تستمر ذات الحكومة وكافة الأجهزة – بذات الطاقم القائم – حتى ذلك التاريخ، ولو كان الأمر كذلك لتم إجراء الاستفتاء في يوليو نفسه وليس في يناير، كما أن المسؤولين الجنوبيين سوف يفقدون نصيبهم في السلطة في الشمال بمجرد ظهور اختيارهم الجديد، فالاختيار الجديد هو بمثابة تنازل عن النصيب في السلطة في الشمال، بل يمكن القول إن شرعية المسؤولين الجنوبيين تنتهي في الشمال بمجرد ظهور النتيجة، لأن مواطني الجنوب يكونوا قد قرروا – بموجب نتيجة الاستفتاء – انتزاع هذه الشرعية منهم وإعادة ترتيبها ومعالجتها لاحقاً في الدولة الجنوبيةالجديدة. ولهذا فإن ضرورات تكوين حكومة قومية في الجنوب تبدو أكثر أهمية وأشد إلحاحاً عن الشمال، لأن القادة الذين جرى الاستفتاء على أيديهم من الجنوبيين إنما يكتسبون شرعيتهم بعد ظهور النتيجة من الجنوب ولصالح الجنوب، ونتيجة الاستفتاء في حد ذاتها بمثابة إشارة شعبية كافية لانقضاء شرعيتهم في الشمال.